الصناعات المعدنية.. طريق التنمية

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 28 أكتوبر 2024 - 6:20 م بتوقيت القاهرة

أهدانى الأستاذ الدكتور سعد الراجحى أستاذ ورئيس قسم هندسة التعدين بجامعة القاهرة سابقا كتابه القيّم عن الصناعات المعدنية فى مصر خلال سبعة آلاف عام. وإذا كان تقدّم الأمم يقاس فى جانب منه بنصيب الفرد من منتجات الصلب والألمنيوم والنحاس، فإن الصناعات المعدنية (أو الفلزّية بتعبير أدق) تضرب بجذورها فى مصر منذ آلاف السنين، إذ يخبرنا الدكتور الراجحى أن المملكة المصرية القديمة (بين 3200 و2600 قبل الميلاد) تمثّل عصر الريادة فى معظم المجالات ومنها الصناعات المعدنية، حيث ازدهر العمل فى مناجم النحاس والحديد والذهب بكل من الصحراء الشرقية وبلاد النوبة. وإذ يؤكد المؤلف على شح الخامات المعدنية الاقتصادية وانخفاض تركيزها فى مصر، فإن ذلك لم يمنع المصرى القديم من اقتحام ما يعرف بالعصر البرونزى فى وقت مبكّر قبل العام 4500 ق.م، أى عصر ما قبل الأسرات وما قبل توحيد القطرين. كما أن الحديد قد عرف فى مصر قبل عام 2500 ق.م أى قبل أى مكان آخر فى العالم. كذلك تم استخراج الذهب من الصحراء الشرقية فى القرن الثلاثين قبل الميلاد، وكان من أشهر المنتجات الذهبية المصرية قناع الملك توت عنخ آمون الذهبى، الذى صنع فى وقت قريب من العام 1250 ق.م والذى يعد آية فى براعة التصميم والتشكيل.

وإذ تمتلك مصر تاريخا طويلاً من تطوير الصناعات المعدنية فإن ازدهار تلك الصناعات قد اقترن تاريخيا بالنهضة الاقتصادية والعسكرية للدولة. ففى العصور الوسطى على سبيل المثال ذكر الكتاب أن مصر لم تشارك فى الصناعات المعدنية التى تطورت فى البلاد الإسلامية فى آسيا مثل الهند، التى اشتهرت بصناعة الحديد والصلب، حيث اكتفت مصر بانتشار الحرفيين مثل الحدادين والنحاسين والصاغة.. كما جاء ذكر ذلك فى كتاب «وصف مصر». أما فى عهد الأسرة العلوية والصحوة المصرية التى واكبت وصول محمد على إلى سدة الحكم فى مصر عام 1805، فإن تطورا كبيرا قد لحق بالصناعات المعدنية. يقول الدكتور الراجحى «إن دقة صناعة مدافع القلعة بالقاهرة ومدافع قلعة قايتباى بالإسكندرية.. والتى تم صهر وصب حديدها فى مسابك بولاق تؤكد مستوى مراقبة وتوكيد الجودة التى كانت متبعة فى ذلك الوقت».

• • •

ويذكر الدكتور حسن بخيت فى «بوابة العرب للثروات الطبيعية» أنه فى حوالى عام 1820، اكتشف الباحث الإيطالى «دروفتى» لفائف من ورق البردى فى مقبرة بدير المدينة على الجانب الغربى للنيل أمام طيبة (الأقصر). كانت المقبرة لعائلة «أميناخت»، الذى كان كاتبًا ملكيًا فى بلاط الملك رمسيس الرابع (1151-1145 قبل الميلاد). من بين اللفائف، كانت هناك لفافة عليها خريطة، وقد تفككت اللفافة إلى خمس عشرة قطعة، وكان أكبرها الجزء الذى يضم خريطة لموقع أحد مناجم الذهب. جُمعت كافة أجزاء اللفافة فى متحف المصريات بمدينة تورين بإيطاليا، ويظهر أحد الأجزاء خريطة لمعالم صحراوية تتضمن ستة طرق محاطة بجبال، وموقع بيوت للعمال، ومعبد، وبئر.. بما فى ذلك جبل مكتوب عليه «جبل الفضة والذهب». فى وسط الخريطة توجد مساحة خماسية الشكل ملونة باللون البنى الداكن وبها لوحة باللون الأبيض عليها نقش للملك سيتى الأول من الأسرة التاسعة عشر (1318-1304 قبل الميلاد)، مما جعل البردية تنسب إلى الملك سيتى الأول.

أما استغلال مناجم النحاس فى شبه جزيرة سيناء، فقد بدأ قبل ظهور الأسرة المصرية الأولى بمئات السنين، حيث عرف المصريون القدماء معدن النحاس منذ حضارة البدارى (وفقا لبخيت) وكانوا يصنعون منه بعض أدواتهم البسيطة وحليهم. وبالإضافة إلى النحاس، كان التعدين فى سيناء يشمل عنصرين آخرين هما: أكسيد النحاس، الذى استخدم فى صناعة الكحل وبعض أدوية العيون وكذلك لصناعة اللون الأزرق، ثم حجر الفيروز، وهو حجر نصف كريم يستخدم للزينة، كما استخدمه المصريون بعد طحنه فى صناعة بعض المواد الخاصة بالتلوين.

ويقدم كتاب «تاريخ علم المعادن» لصاحبه آر. إف. تايليكوت مقدمة شاملة لتاريخ التعدين حول العالم منذ أقدم العصور وحتى سبعينيات القرن الماضى، إذ يغطى الكتاب تطور المهارات والتقنيات المعدنية عبر مختلف الحضارات وتفاعلاتها. ويتناول الكتاب الموضوع بترتيب زمنى يشبه ما سبق أن تناولناه فى كتاب «الصناعات المعدنية فى مصر» بداية من التعدين فى العصر الحجرى، إلى التحرّك عبر تطوير سبائك النحاس، ثم العصر الحديدى المبكر، ثم العصور الوسطى، وحتى الثورة الصناعية. أما مقال «تاريخ المعادن» بقلم كى جون وشو كوانجدى، فإنه يتناول تطور تكنولوجيا علم المعادن من العصر الحجرى الحديث إلى العصر الحديث، مع تسليط الضوء على دور علم المعادن فى تعزيز الإنتاجية الاجتماعية وتعزيز التقدم الاجتماعى. ويذكر المقال أن البرونز القصديرى ظهر لأول مرة فى منطقة دجلة والفرات فى الفترة ما بين 3000 و2500 قبل الميلاد. وفى الألفية الثانية قبل الميلاد، وصلت تكنولوجيا صهر النحاس والبرونز إلى ذروتها. وبدأ العصر البرونزى فى مصر - وفقا للمقال - فى حوالى عام 2600 قبل الميلاد. وفى أوروبا، ظهر البرونز القصديرى فى الفترة ما بين 1800 و1500 قبل الميلاد، أى بعد عصر النحاس الزرنيخى.

أما فصل «التعدين وعلم المعادن» بقلم جانيت جراولاو الذى ينتمى إلى كتاب «النهضة والإصلاح»، فإنه يستكشف التاريخ الاجتماعى والاقتصادى للتعدين وعلم المعادن، مع التركيز على دور التوسّع الديموغرافى والدخل فى نجاح تلك الصناعات. ويؤكد الفصل المذكور على أن صناعة التعدين والمعادن قد شهدت تغيرات حاسمة مرتبطة بالإمكانيات الجيولوجية المتاحة والتحول السياسى والاقتصادى والثقافى فى أوروبا. وقد أدى استخراج الرصاص والحديد والفضة والنحاس والذهب والمعادن الأخرى إلى التكيف المستمر مع آلات ضخ المياه وتكنولوجيا أفران الصهر. وبفضل النجاحات والإخفاقات، قام عمال المناجم بتكييف المواقد التى تنفخها الرياح، والأفران، وتقنيات التكوير مع مجموعة كاملة من الخامات.

• • •

وتواجه الصناعات التحويلية فى مصر تحديات عدة تناولناها فى غير مقال أبرزها: تعدد جهات الولاية على الأراضى الصناعية، وتعدد الموافقات والتراخيص، وارتفاع تكلفة الأرض الصناعية وتكلفة التمويل، وتقلّب أسعار الطاقة، وعدم توافر المواد الخام ومدخلات الإنتاج محليا، بالإضافة إلى أزمة فى الاستيراد نتيجة ندرة النقد الأجنبي. كما أن هناك نقص فى العمالة المدربة، مع استمرار هجرة العقول النابغة التى أصبح تصديرها هامًا لزيادة تحويلات العاملين من العملة الصعبة. تعويض تلك العقول النازحة مرتفع التكلفة، ويحتاج إلى عملة صعبة، خاصة فى ظل تراجع أداء القطاعات الحيوية بسبب تفضيل العمالة غير المؤهلة على المؤهلة فى الأسواق الجاذبة. بالإضافة إلى ذلك، تغيب محفزات الصناعة فى وقت تحقق فيه أنشطة الاستثمار العقارى عائدات كبيرة، ويحقق المستثمرون فى أدوات الدين والودائع محدودة المخاطر إيرادات كبيرة فى عالم يعانى من عدم اليقين وموجات من التشديد النقدى، مثل رفع أسعار الفائدة لامتصاص الصدمات التضخمية المنتشرة عالميًا.

وتعد الصناعات المعدنية من أكثر الصناعات التحويلية تأثراً بالعوامل السابقة، خاصة ما يتعلّق منها بالطاقة وندرة المواد الخام والعمالة المدرّبة، وارتفاع تكلفة التمويل، فضلاً عن المعوقات التشريعية والمؤسسية. ومازالت الثروة المعدنية منذ فجر التاريخ تقع تحت سيطرة مؤسسات الدولة ذات الطابع الحكومى، بينما يصعب على القطاع الخاص المنافسة إلا بالشراكة مع الدولة لأسباب عدة فى مقدمتها ارتفاع التكاليف وتأخر العائد على الاستثمار وبعض الصعوبات المتعلّقة بالاشتراطات الحكومية. وباستثناء إنتاج الحديد والصلب فإن مساهمة القطاع الخاص فى الصناعات الفلزية الخاصة بتشكيل المعادن تظل ضعيفة فى مصر وينعدم فيها أى نوع من التكامل بين مراحل الإنتاج. 

لكن أى طفرة تنموية مرجوّة فى مصر وفقا لمستهدفات رؤية 2030 (التى ننتظر تطويرها ومد أجلها) تظل مشروطة بزيادة إنتاجية الصناعات المعدنية ذات القيمة المضافة، مع تطوير الطاقات الإنتاجية لتحقيق وفر أكبر فى الطاقة والتمويل، واستغلال أفضل للمزايا النسبية والتنافسية للسوق المصرية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved