الفضائيات المصرية الخاصة .. قراءة فى العلاقة بين الملگية والسياسة التحريرية
محمد ناصر حافظ
آخر تحديث:
الإثنين 28 نوفمبر 2011 - 9:55 ص
بتوقيت القاهرة
يرى العديد من المراقبين أن الإعلام المصرى بشقيه الحكومى والخاص يأتى فى الواجهة بين مشاهد الأزمة التى تعيشها مصر منذ سقوط النظام السابق، فرغم المطالب المتزايدة بإعادة هيكلة الإعلام المسموع والمرئى المملوك للدولة، فإن تكريس الوضع السابق لايزال قائما، بل إن عودة منصب وزير الإعلام فى ذاته واختياره من المقربين للمؤسسة الحاكمة، يؤكد أن عقلية التعامل مع الإعلام الحكومى كما هى، وهى إبقاء الإعلام الذى يمتلكه الشعب فى حظيرة النظام، أيا كان هذا النظام.
أزمة إعلام الدولة تلك تتواضع فى تأثيراتها السلبية كثيرا أمام حالة الانفلات والعشوائية المخططة من قبل الإعلام الفضائى الخاص، الذى يعتقد الكثيرون ومن خلال مجمل مواقفه أنه يسعى بجدية لمحاصرة الثورة المصرية وتفريغها تدريجيا من مضمونها.
تجدر الإشارة إلى أنه انتشر ولوقت طويل تصور بأن الأنظمة الديكتاتورية تسعى للسيطرة المباشرة على وسائل الإعلام، فى حين تسمح الأنظمة الديمقراطية بالملكية التعددية. الا أن هذا الكلام واقعيا لم يعد مسلمة لا يمكن نقدها، حيث إن العديد من المحللين يرون أن الشركات الكبرى التى تسيطر على وسائل الإعلام، لا تساعد فى الواقع على التعبير عن وجهات نظر سياسية بديلة.
وبدا ذلك عندما قامت شركات أمريكية مثل «جنرال إلكتريك» و«ويستنجهاوس» بامتلاك مؤسسات إعلامية. حيث ظهر مشهد إعلامى يبدو بعيدا عن النموذج المحايد وبات لأصحاب وسائل الإعلام مصالح فى العملية السياسية. وهذا ما أكد عليه كل من إدوارد س.هيرمان ونعوم تشومسكى فى كتابهما (الرغبة فى التصنيع: الاقتصاد السياسى لوسائل الإعلام).
●●●
كذلك فإن وسائل الإعلام الخاصة فى أمريكا اللاتينية كثيرا ما تحالفت بشكل وثيق مع الديكتاتوريات العسكرية. وهو الوضع الذى لم يختلف كثيرا عن مصر التى ظهرت فيها الفضائيات عام 2001 لتواكب بداية الظهور المنظم لنجم جمال مبارك ومشروع التوريث، بالإضافة إلى الاستجابة للضغوط الأمريكية بعد حادث الحادى عشر من سبتمبر، ومن ثم كانت الفضائيات الخاصة جزءا من مساحيق تجميل وجه النظام السابق، وكان أهم ما يميزها فى تلك المرحلة:
1 ــ احتكار منح تراخيص لإنشاء فضائيات خاصة لحفنة من رجال أعمال ارتبطت مصالح معظمهم بصورة مباشرة بالنظام الذى منحهم امتيازات عديدة فى مجال عملهم ومن ثم لم تظهر أى مؤسسات اعلامية خاصة لا يمارس ملاكها أعمالا أخرى فالإعلام يأتى دائما كجزء مكمل من إمبراطوريات رأس المال ولخدمة مصالحها الاقتصادية.
2 ــ وضع خطوط حمراء لتلك الفضائيات فى نقد النظام ورموزه وكذا فى نقد التوجهات السياسية والاقتصادية التى لا تتوافق مع مصالح رجال الأعمال.
3 ــ فى القضية الوطنية كان موقف تلك الفضائيات متوافقا تماما مع وجهة نظر النظام من ناحية ومع وجهة نظر الدول الكبرى والمؤسسات الدولية المهيمنة على المنطقة سياسيا واقتصاديا من ناحية أخرى.
4 ــ تخليق مجموعة من النجوم، فى أغلبهم من أصحاب الخبرات فى برامج الترفيه والذين يرى العديد من المراقبين أنهم من متواضعى المستوى المهنى ليكونوا الواجهة لتلك القنوات وبخاصة فى برامج التوك شوز.
لتكريس هيمنتهم على جميع الوسائط الإعلامية قام أغلب رجال الأعمال بالمشاركة فى امتلاك وإدارة حقائب متنوعة فى مجال الإذاعة والصحف والمجلات ونشر الكتاب والسينما والتسجيلات الصوتية، بالإضافة إلى توافقهم وتملك بعضهم لعدد محدود من شركات الإعلان التى تهيمن على الكعكة الإعلانية فى الفضائيات.
●●●
اذا كان ما سبق يمثل جزءا يسيرا من تركيبة الإعلام الخاص فى مصر قبل الثورة والتى كانت سببا مباشرا فيما اعتبره كثيرون حالة التخبط وعدم الاتزان التى ظهر عليها المنتج الإعلامى خلال أيام الثورة الثمانية عشر، إلا أن واقع الإعلام الخاص بعد الثورة بات يمثل خطورة حقيقية على الثورة وعلى مستقبل الوطن بكامله، ويمكن أيجاز أهم مشاهده فى الآتى:
أولا: رغم التراجع الشديد فى الاستثمار فى مختلف المواقع، كان الاستثمار فى مجال الإعلام الفضائى يتزايد بدرجة لافتة للنظر حيث تم ضخ المليارات من الجنيهات دون أى مردود اقتصادى متوقع مع ظهور مجموعة من رجال الأعمال الجدد وآخرين من الهاربين فى الخارج ليمتلكوا فضائيات جديدة حتى إن إحد هؤلاء قال إن قنواته رغم ما يقوم بضخه فيها من مبالغ طائلة هى مجرد وقف خيرى لا ينتظر منها أى مردود مالى، بما قد يؤكد الشكوك أن الهدف من تلك الفضائيات سياسى لتوجيه الثورة والرأى العام بما يتوافق مع أجندة رجال الأعمال فى الداخل وربما قوى إقليمية ودولية معنية بمستقبل مصر.
ثانيا: فى تحد واضح لمشاعر الثورة والشعب المصرى تم احتضان وجوه إعلامية رفضها المواطنون والثورة وفرضها على الناس عبر برامج جديدة، دون حتى أى معايير تجارية، حيث لا يمكن أن يتوقع أى تاجر مبتدئ رواج سلعة مرفوضة جماهيريا، بما يؤكد أننا فى مواجهة مخطط سياسى لا علاقة له بالإعلام أو حتى الاقتصاد.
ثالثا: التنسيق والتحالف بين كثير من مقدمى البرامج فى تلك الفضائيات الذين تتناغم مصالحهم فى إبقاء الوضع الإعلامى على ما هو عليه، مع عدم تناول أى من القضايا المهمة التى تتناقض مع مصالح رجال الأعمال ملاك تلك الفضائيات أو ملاك الوكالات الإعلانية التى تمولهم، كذلك عدم التعرض لبعضهم البعض بالنقد او الحديث عن علاقاتهم بأركان النظام السابق وبخاصة أمن الدولة، والحيلولة دون توجيه أى نقد لهم فى الصحف المختلفة عبر استمالة أغلب رؤساء تحريرها وكبار الكتاب فيها باستضافتهم بصورة دورية فى برامجهم والتنويه المستمر عما ينشر بصحفهم فى مقابل ترويج تلك الصحف لهذه الوجوه الإعلامية وقصف أقلام من ينقدها حتى بتنا بحق أمام لوبى من مافيا الإعلام تتناغم فيه مصالح مجموعة من الإعلاميين الانتهازيين.
هذا الوضع يدفعنا للبحث عن مخرج لحالة الإعلام المصرى الفضائى الحالية، إذا كنا راغبين حقا فى إنجاز منظومة إعلامية حقيقية تخدم بحق مصالح الوطن وطموحات ثورته ومستقبل أبنائه، وذلك عبر تبنى الخيارات التالية:
1 ــ قيام الاجهزة الرقابية المختلفة بالبحث والتحرى فى حجم الأموال التى يتم استثمارها فى الفضائيات ومعرفة مصادرها وملاكها وأهدافهم الحقيقية منها.
2 ــ المصادفة فى التوقيت يمكن أن تجعل بريطانيا نموذجا من مصلحة مصر الثورة أن تفكر فى كيفية الاستفادة منه، وذلك من خلال ما يحدث الآن من تحقيق جنائى فى فضيحة تنصت صحفيى إمبراطورية مردوخ الإعلامية على المواطنين وهو الأمر الذى يدعونا لمواجهة الاحتكار الإعلامى فى مصر وتشجيع قيام أشكال تعاونية تضم العاملين فى وسائل الإعلام وتمكنهم عبر سلسلة من التسهيلات من تملك القنوات التليفزيونية التى يعملون بها أو تملك نسب كبيرة منها.
3 ــ إجراء دراسة علمية لتحليل مضمون المحتوى الإعلامى للفضائيات وبخاصة برامج التوك شوز خلال الفترة السابقة على الثورة وفى أثنائها وبعدها، وذلك للوقوف على حرفية الأداء الاعلامى والمستوى المهنى للقائمين على تلك البرامج، وإعلان النتائج العلمية المحايدة، حتى يمكن وكما هو الحال فى المطالبة باستصدار قانون لمعاقبة من أفسدوا الحياة السياسية، فلابد من الإعلان عن قانون لمعاقبة من أفسدوا الإعلام والسياسة معا وروجوا للاستبداد والديكتاتورية والتوريث وتعاونوا مع أمن الدولة فى محاصرة المعارضة والتضييق عليها، وذلك بهدف استصدار أحكام بعزل هؤلاء الفاسدين الذين أفسدوا الحياة السياسية عبر الإعلام.
4 ــ إصدار قوانين تضمن فصل الإدارة عن رأس المال فى القنوات الفضائية.
5 ــ إنجاز مشروع نقابة مستقلة للإعلاميين فى الإذاعة والتليفزيون الحكومى والفضائيات الخاصة بما يكفل الحفاظ والحماية لحقوق الإعلاميين.
6 ــ تشكيل إدارة أو جهاز لتنظيم البث الإعلامى المرئى والمسموع.
7 ــ إصدار ميثاق شرف ينظم أداء الإعلام المصرى، ويضع ضوابط مهنية وأخلاقية، وجزاءات رادعة تطبق بحزم وبمساواة على كل المخالفين على أن يتم إنجاز هذا الميثاق بعد حوار مجتمعى لممثلين عن الشعب المعنى أساسا بالرسالة الإعلامية وخبراء وأكاديميين وقادة نقابة الإعلاميين المزمع إنشاؤها بالإضافة إلى آراء وتصورات القنوات الفضائية واتحاد الاذاعة والتليفزيون وجمعيات المجتمع المدنى والأحزاب والقوى السياسية.
وفى هذا الإطار يجب الكف عن محاولة بعض نجوم التوك شوز السطو على هذا الميثاق أو محاولتهم وضع تصور لهيكل جهاز مستقل معنى بالبث فى مصر والادعاء بأنهم قادرون على إنجاز تلك الأمور، حيث لا يمكن لمن يخالفون أبسط القواعد المهنية عبر أدائهم اليومى أن يقوموا بوضع رؤية استراتيجية لمستقبل الإعلام أو بإنجاز ميثاق شرف يجب أن يتضمن توقيع عقوبات رادعة عليهم.
8 ــ اتخاذ جميع التدابير الخاصة بكسر احتكار عدد محدود من شركات الإعلان لحصيلة الإعلانات فى الفضائيات المختلفة.
9 ــ أهمية إصلاح حال اتحاد الإذاعة والتليفزيون وإعادة هيكلته ليكون بحق جهازا مملوكا للشعب بجميع طوائفه ويعبر عن جميع توجهاته دون تمييز.
10 ــ تشجيع إنشاء جمعيات أهلية للمشاهدين شبيهة بجمعيات حماية المستهلك هدفها الرقابة ونشر مخالفات وسائل الإعلام على اختلافها والحفاظ على حق المواطن فى تلقى خدمات إعلامية متنوعة.
●●●
ويبقى أنه إذا كان المشهد الإعلامى يدفع كثيرا من المتلقين لترديد مقولة الثائر تشى جيفارا «الثورة يطلقها مغامر، ويقودها بطل، ويستغلها انتهازى» فإن تصدينا لهذا العبث الإعلامى الانتهازى يجعلنا نردد مقولته الاخرى «الثورة حمراء كالجمر.. قوية كالسنديان.. عميقة كحبنا الوحشى للوطن».