عشنا لنرى السهول الذهبية فى شمال سيناء وقد أصبحت مراتع للقتل الجماعى. ورأينا أرض الوادى المقدس وقد عصفت بها حرب دامية، تقتحم بيوت الله، وتفجر المصلين فى هدوء بداية الصلاة.
من اللحظات الأولى كان الإعلام الرسمى مصدرا لخبر الهجوم على مسجد الروضة، وهى إشارة إيجابية ربما تسهم فى عودة الثقة إلى ما تبقى من «ماسبيرو» فى ذاكرة الوطن، وكان التنسيق ظاهرا بين جهات الدولة التى تتابع المذبحة.
لكن ليس صحيحا ما استنتجته «المصرى اليوم» من أن «الدولة نجحت فى إدارة المشهد الإعلامى لدى تغطية الهجوم الإرهابى». الدولة نجحت فى امتحان الشفافية فيما يتعلق بالبيانات الرسمية، لكن المشهد الإعلامى ليس كله فى يد الدولة بالمعنى الحرفى، وإن كان فى عهدة مؤيديها، وكل واحد واجتهاده.
كان الامتحان الأكبر للإعلام فى سهرات التوك شو، وهى برامج نحتاج فيها فقط إلى بعض المقاعد، وبعض الضيوف. وكانت العاطفية شعارا وحيدا لتغطية جريمة بهذا الحجم: تجريد القاتل من كل الصفات الإنسانية، وضع المذبحة فى إطار المؤامرة وتوزيع الاتهامات، ثم التعاطف مع الضحية، ولا بأس من بعض الدموع.
انهالت العبارات المتوقعة من كل المقاعد، «مجموعة من الإرهابيين الخونة، جماعة الإخوان الإرهابية والدعم المالى والاستخباراتى من قطر وتركيا، لا تتحدثوا عن أنصار بيت المقدس ولا غيرهم، إلخ».
بدلا من شرح ما يجرى، ونقل وجهة نظر الحكومة والأمن والخبراء فى طبيعة التطور الواضح لماكينة القتل فى سيناء، أعد المذيعون وضيوفهم قائمة بالتحليلات التى تصب فى المواقف الرسمية داخليا وخارجيا، وقالوا ما يتصورون أنه يرضى القيادة، وليس ما يتصورون أنه الحقيقة المثبتة علميا.
تفرغ نجوم التوك شو لاصطياد ما يضعهم فى عناوين الأخبار، وقد حصل.
تنافس المذيعون فى البكاء على الهواء، وليس هذا دور المذيع. هاجموا وكيل الأزهر لرفض تكفير القتلة. وليست من مهام الرجل منح صكوك الإيمان والكفر، فالجريمة تتجاوز ما يفعله الكفار من أيام أبى جهل حتى الآن.
الاتهامات الجزافية تجاوزت مثلث «الإخوان قطر تركيا»، وطال الرذاذ جريدة الشروق. فى سخونة الاندماج تقمص أحد ضيوف التوك شو دور «المخبر الصغير» بتعبير الزميل عماد الدين حسين، واتهم «الشروق» بأنها إخوانية وصاحبها إخوانى. كان المحلل ينفى ما نشرته الشروق عن «إن الإرهابيين هددوا القرية قبل شهر»، وهو ما أكدته كل المصادر. والمعركة ليست على دقة المعلومة ولا على تفهيم المشاهد، بل فى مدح النظام السياسى بلا تردد، وتقديس مقدساته، ورجم أعدائه، حتى لو عن طريق التزييف والبلاغات الكيدية.
كلما أصبحت الأوضاع دقيقة وصعبة، يصبح للإعلام دور أكثر أهمية. والمنظومة الإعلامية التى خرجت من دخان يناير ويونيو ويوليو كانت تصلح لدورها وقتذاك، لكن الزاوية تغيرت، والرسالة اختلفت.
الورطة التى نعيشها تستدعى خيالا آخر فى الإعلام المصرى لمتابعة الحقائق المتسارعة. قد ينتقل مثلا بعض الدواعش إلى مصر وليبيا هربا من الضغط عليهم فى سوريا والعراق، كما كتب الصديق خالد منصور على فيسبوك. «العاصفة هبت، ولا بد من أن ننفتح على جميع الاحتمالات المنطقية والمعقولة، والتى ليس من بينها ما يقذفه علينا أصحاب نظريات المؤامرات المصابين بالضلالات والباحثين دائما وأبدا عن دور لإسرائيل وأجهزة الأمن ولأعدائهم السياسيين فى كل مصيبة تحل بنا».
كانت مذبحة الروضة امتحانا صعبا للجميع، لقادة الأمن والسياسة والإعلام، وأيضا لشعبنا العاثر الصابر فى الوادى المقدس.