التنوير شجون
صلاح ابو الفضل
آخر تحديث:
الخميس 28 ديسمبر 2017 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
شاهدت أخيرا حوارا تلفزيونيا جاذبا للمفكر والباحث المتفرد الدكتور يوسف زيدان فى حلقة من رحيق الكتب مع الأستاذ عمرو أديب، وقد دار الحوار حول الصوفية والمتصوفة واختار الأديب شذورا من فكر الحلاج أضاء بها ظلمات كثيفة لا تزال تحيط بسيرة وفكر هذا الفيلسوف الإسلامى الفريد. وعلى الرغم من إعجابى بالدور التنويرى ليوسف زيدان، فإن أطروحاته التنويرية تأتى صادمة أحيانا، وذلك لأن التنوير يشبه العملية الجراحية تكون مؤلمة بقدر ما هى ضرورية لاستئصال الأفكار المغلوطة أو الضارة وإحلال أفكار جديدة. لكننى آخذ على الأديب الكبير قدرا من الزهو والاعتداد بحكمته المكتسبة من التراث تكاد تدفعه لاتخاذ نظرة فوقية تجاه النماذج الثقافية المواكبة، وهو ما يهدد بأن يتحول دوره التنويرى إلى خطاب فوقى ينفر ولا يجذب.
وقد كان من المثير للاهتمام أنه أعاد ما طرحه من قبل بأن المقصود بالمسجد الأقصى الذى أسرى إليه بالرسول الكريم ليس هو المسجد الموجود بالقدس، وإنما مسجد أقصى آخر فى الجزيرة ربما ذلك الذى كان بالطائف، وكرر ما قاله بأن مدينة القدس أو إيلياء كما كانت على عهد النبى لم يكن فيها مسجد وإنما كانت مكانا مهجورا بالقرب من موقع كنيسة القيامة. وهو ما أثار غيرة البعض على المسجد الأقصى ومكانته لدى المسلمين. ولعل ذلك ما حدا به أن يخفف من وقع ما قال فأقر بمكانة القدس وقبة الصخرة التى بناها عبدالملك بن مروان والمسجد الأقصى المجاور لها كآثار مرموقة من التاريخ الإسلامى حتى وإن لم تكن لها قدسية فى نظره، وهى مقولة تنسحب على دعاوى الصهاينة بقدسية ذات المكان.
***
إلى هنا والمسألة تكاد تكون مناسبة ثرية للبحث والتفكير والنقاش، إلا أن الدكتور زيدان انطلق من هذه الفرضية إلى الزعم بأن ذلك يعنى أنه لا وجه للخلاف مع يهود إسرائيل حول القدس أو المسجد الأقصى لأنهما ليسا بالمكان المقدس الذى أسرى بالنبى إليه. وعليه فلا محل لهذه الحمية الدينية وأنه كان أفضل من تأجيج الصراع لو تواصلنا بيهود إسرائيل فلربما نجحنا فى احتوائهم بثقافتنا وعمقنا التاريخى كما احتوى عرب القرن الثالث عشر الممالك الصليبية التى ظلت على أرض فلسطين لفترات طويلة حتى ذابت فى المحيط العربى. والفكرة فى حد ذاتها جديرة بالاعتبار وإن لم تكن جديدة، وكان من الممكن أن تنجح لو أن المفاوض المصرى اتخذ استراتيجية مختلفة فى أثناء مبادرة السلام غير تلك التى تركت فى وجدان المصريين جرحا لم يندمل حتى الآن. لكن خطاب الدكتور زيدان ينزلق بنا إلى هاوية خطرة نحذر منها فالصراع العربى الإسرائيلى لم يكن فى يوم من الأيام صراعا دينيا ولا كان صراعا على المسجد الأقصى، وهو لا يحتاج إلى أن نذكره أن اليهود عاشوا فى فلسطين جنبا إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين، وأن التاريخ حافل بالأمثلة على علاقات التعايش والتعاون التى تجلت أكثر ما يكون فى أيام الأندلس التى خرجوا منها مع المسلمين حين غادروها، وأن الفيلسوف اليهودى موسى ابن ميمون حين غادرها للمغرب اتجه إلى مصر حيث استقبل استقبالا حافلا فى القاهرة وأصبح طبيبا لدى صلاح الدين. الصراع لم يكن ــ ولن يكون ــ بين ديانتين والإيحاء بهذا تسطيح لا يجوز، كذلك فإنه يغذى روح التعصب الدينى بدون مبرر. ولعل الدكتور زيدان لا يختلف على أن إسرائيل بدأت وتستمر ككيان استعمارى عنصرى بالدرجة الأولى وتحكمها عقلية العسكريين وجيش الدفاع الذى أسسه أرباب الإرهاب وحرب العصابات بدءا من
«بن جوريون» إلى «بيجين، وبيريز، وبارليف، وشارون» وعشرات غيرهم انتهاء بنتنياهو الأمريكى النشأة واللكنة وليبرمان الروسى المهووس بضرب السد العالى. والمراقب لتطورات الصراع يجد أن استراتيجية إسرائيل منذ نشأتها اعتمدت على محورين أساسيين يحركان سياستها، أولهما الاستيلاء على كامل التراب الفلسطينى وإخراج كل الفلسطينيىن منه سواء بالإرهاب والطرد أو التهجير بالحرب إلى الاضطهاد والإحلال بالاستيطان. أما المحور الثانى فهو القناعة التامة بأن مصر الأمة والتاريخ والمخزون هى القوة الإقليمية الأقدر على الوقوف أمام نوايا إسرائيل التوسعية أفقيا على الأرض ورأسيا فى الاقتصاد والسياسة.
ووفقا لما ذكره «آفى شلايم» ــ الأكاديمى الإسرائيلى ــ فى كتابه «الجدار الحديدى» فإنه: حين زار دالاس وزير خارجبة أمريكا إسرائيل عقب قيام ثورة 1952 سعى لطمأنة بن جوريون الذى كان قلقا من هذه الثورة فقال له: «إن المصريين لا يريدون إلا بناء أنفسهم» فكان رد بن جوريون: «لم تكن لتأتينى بخبر أسوأ من ذلك». لهذا سعت إسرائيل ولا تزال منذ نشأتها إلى إضعاف مصر وكسر شوكتها وإحباط كل محاولاتها للتقدم والنهوض. والباقى من أهداف إسرائيل هو تفاصيل.
وقد نجحت إسرائيل بدرجات متفاوتة على كلا المحورين، والناظر إلى الساحة الممزقة على الرقعة العربية يدرك أنها تقترب حثيثا من تحقيق نجاحات جديدة على المحورين ما لم ننتبه إلى ما سيحدث. فعلى صعيد الأرض والشعب نجحت فى توسيع رقعة الاستيطان وشيدت جدارا عازلا حصر الفلسطينيين فى الضفة ليس فقط تحسبا للانتفاضات ولكن منعا لخطر فكرة الدولة الواحدة، ثم شقت الصف الفلسطينى بتشجيع قيام حماس التى ارتبطت بالإخوان المسلمين بكل انتهازيتهم وضحالة فكرهم السياسى، ثم حاصرتهم فى غزة بينما انخرطت مع منظمة التحرير فى عملية تفاوض لا نهائية تخلصت خلالها من عرفات وشلت كل فاعلية للمقاومة، بينما استعرت نار الفوضى الخلاقة فى أرجاء العالم العربى تهيئة لضربة جديدة.
***
أما على الصعيد المصرى فقد شنت إسرائيل الحرب على مصر وضربت مشروعها التنموى وهزت ثقتها بالنفس. وعلى الرغم من معاهدة السلام فإن إسرائيل لم تتوقف عن التآمر على مصر، ولم يعد سرا ضلوعها فى مشروع سد النهضة، ونكاد نشتم نصائح خبرائها فى سلوك الإثيوبيين وأساليبهم الملتوية فى التعامل مع مصر. والآن تتضح شيئا فشيئا أبعاد هذا التخطيط المحكم فمع الضغوط المتصاعدة بحرص من مشروع السد بدأت وتيرة الحديث تتصاعد عن مشروع استبدال جزء من سيناء لتوطين الشعب الفلسطينى والاستيلاء على غزة مع التلويح بكل المغريات ليسيل لعاب المصريين للفخ المنصوب. ونكاد نشك فى أن إسرائيل ربما لم تعد تعتمد الخيار العسكرى فى مواجهة مصر، وإنما تلجأ لخطة حصار معيشى قد يكون أكثر قسوة من الحرب لكى تجبر الأمة المصرية كلها على الركوع أمامها وقبول التنازل عن سيناء للفلسطينيين فى سبيل المياه، وكفى الله المؤمنين القتال!
إن إسرائيل تشن على مصر الآن حربا نفسية شرسة تكاد توازى الحرب العسكرية تلح فيها بصبر ودأب على أكذوبة جنونية عن صفقة قرن يلفها الغموض، ويخدر الإلحاح عليها من عزيمة المصريين لكى يرضخوا لما سيفرض عليهم من ترتيبات جديدة تسلب منهم سيناء ثمنا لمياه النيل.
من هنا يتضح لنا ــ وربما للدكتور زيدان ــ أن الصراع ليس دينيا ولا مفتعلا ولكنه صراع يصر ساسة إسرائيل وعسكريوها على أن يكون صراع حياة أو موت، ولم تعد تصلح فيه دعوات استخدام القوة الناعمة بالاقتراب من الدوائر المعتدلة فى إسرائيل، فالذين يحكمون هناك صقور لا تريد السلام ولكن التفتيت الكامل للمحيط العربى وفى مقدمته الأمة المصرية، ولذلك فالخطاب التنويرى للدكتور زيدان يحتاج إلى بعض من الترشيد وبعض من الحذر وربما إلى كثير من التواضع.