لغز تصعيد المجلس العسكرى مع واشنطن
محمد المنشاوي
آخر تحديث:
الأحد 29 يناير 2012 - 9:15 ص
بتوقيت القاهرة
لم يعد استمرار تلقى القوات المسلحة المصرية مساعدات عسكرية أمريكية قيمتها مليار دولار سنويا من واشنطن ــ شيئا مضمونا بعدما صعَّد المجلس العسكرى فى مواقفه تجاه واشنطن بصورة غير مفهومة. وتستغرب دوائر الفكر والسياسة فى واشنطن إقدام المجلس العسكرى الحاكم فى مصر على هذا التصعيد المتعمد تجاه علاقاته بإدارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما.
وخلال العقود الأخيرة انحصر مصدر التوتر فى العلاقات الثنائية المتينة بين واشنطن والقاهرة فى مواقف للكونجرس رأتها السلطات المصرية تعديا على سيادتها، أو تدخلا مرفوضا فى شئونها الداخلية. ولطالما تفهمت وزارة الخارجية والبيت الأبيض الموقف المصرى، وحاولت مرارا إثناء الكونجرس عن مواقفه المتشددة. كذلك لعبت وزارة الدفاع الأمريكية، ووكالة المخابرات المركزية CIA دورا ضاغطا مماثلا على الكونجرس من أجل الإبقاء على خصوصية العلاقات الدفاعية والاستخباراتية مع القاهرة.
إلا أن آخر خطوات التصعيد من جانب المجلس العسكرى، والتى جاءت عقب اقتحام مقار منظمات أمريكية نهاية الشهر الماضى، تمثلت فى منع سفر السيد سام لحود، مدير فرع المعهد الجمهورى، وابن وزير النقل راى لحود، وأمريكيين آخرين، بسبب استمرار التحقيقات التى تجريها السلطات المصرية مع منظمات المجتمع المدنى الأمريكية العاملة فى مصر، حسبما ذكرت بيانات الحكومة المصرية.
وللمرة الأولى تتفق أركان الإدارة الأمريكية من كونجرس وبيت أبيض ووزارة خارجية، إضافة للرأى العام ووسائل الإعلام، على رفضها القاطع لما تراه تصعيدا غير مبرر من المجلس العسكرى، وهو ما قد يفتح احتمالات توقف، أو وضع شروط حقيقية، على تقديم المساعدات العسكرية التى تتلقاها القوات المسلحة المصرية وتبلغ قيمتها 1.3 مليار دولار سنويا، وذلك للمرة الأولى منذ بدء تلقى هذه المساعدات.
ولكى تتلقى القوات المسلحة المصرية مساعدات عام 2012، والتى يجب أن تصرف قبل نهاية مارس القادم، فعلى وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون أن تؤكد للكونجرس أن مصر «تلتزم بسياسة حماية حرية التعبير والتجمع وحرية العقيدة وتلتزم بسيادة القانون» قبل صرف هذه المبالغ.
وبعد أسبوعين من الآن، ويوم 13 فبراير تحديدا، سيقدم الرئيس أوباما للكونجرس تصوره المبدئى لمشروع الميزانية الفيدرالية لعام 2013، وسيكون من الصعوبة بمكان تصور وجود بند المساعدات العسكرية لمصر إذا ما استمرت الأزمة المصرية الأمريكية الحالية.
يوم 20 يناير هاتف الرئيس أوباما المشير طنطاوى مؤكدا له الدور المهم الذى يضطلع به المجتمع المدنى، بما فى ذلك المنظمات غير الحكومية، فى مجتمع ديمقراطى. وطلب أوباما أن تحل مشكلة المنظمات الأمريكية فى مصر من أجل الحفاظ على مستقبل المساعدات العسكرية لمصر، حيث سيصعب استمرار الأزمة من موافقة الكونجرس على تقديم مساعدات لمصر، وذلك لأن تلك المنظمات تربطها علاقات قوية ومتشابكة مع الكونجرس بحزبيه الجمهورى والديمقراطى.
والسؤال المهم هنا يتعلق بالمنطق وراء عدم ممانعة المجلس العسكرى فى تصاعد الأزمة؟
مسئولون أمريكيون يرجحون أن المجلس العسكرى لم يفهم رسالة أوباما، ولا يعتقد أن واشنطن تستطيع أن تخاطر بقطع المعونات فى هذه المرحلة الحرجة المتوترة التى يشهدها الشرق الأوسط.
أما أنا فلدىّ مخاوف من استغلال التوتر فى العلاقات المصرية ــ الأمريكية من جانب المجلس العسكرى لتحقيق مكاسب سياسية داخلية، خاصة مع استمرار ضغط الشارع المصرى والقوى السياسية المختلفة، والمطالبة بترك المجلس العسكرى للسلطة والعودة لثكناته، وعدم تمتعه بأى وضع خاص فى الدستور.
تصريحات فايزة أبوالنجا، وزيرة التعاون الدولى، النارية التى ذكرت فيها أن الحكومة المصرية لن تقبل أية تهديدات أو شروط من أمريكا، وقولها إن «المساعدات الأمريكية لمصر ليست منحا ولا هبات، وإنما هى مبنية على المصالح المشتركة بين البلدين»، ودعت المسئولين الأمريكيين إلى مراعاة هذا البعد عند الحديث عن المساعدات، توحى بنوايا المجلس العسكرى من وراء التصعيد مع واشنطن، والتى يمكن فهمها فى الرغبة فى تعويض الخسارة الكبيرة، والتى لم يتصورها أحد، من رصيده الشعبى منذ توليه مقاليد السلطة، والتى ظهرت بوضوح لا يقبل الشك خلال مظاهرات الأيام القليلة الماضية.
فى الوقت نفسه يدرك المجلس العسكرى أن المساعدات العسكرية لمصر خلال العقود الأخيرة ساعدت واشنطن فى تحقيق أهدافها الأمنية والإستراتيجية فى المنطقة. والمجلس متيقن أيضا من أن موقع ومكانة مصر فى الإستراتيجية الأمريكية لا تضاهيها أهمية أى دولة أخرى. وهناك أيضا دور ايجابى للوبى شركات السلاح التى حصلت مصر منها خلال الأعوام الأخيرة على تكنولوجيا عسكرية أمريكية مثل شركات بوينج ولوكهيد مارتن وسيكورسكى وجنرال ديناميكس.
تاريخيا تقوم النظم العسكرية الحاكمة باللعب على وتر الأزمات والقضايا الخارجية، لما لها من جاذبية ووطنية لا يجادل بخصوصها أحد. خلال عام 1982 حاول الجيش الأرجنتينى برئاسة الجنرال ليوبولد جالتيرى تحويل أنظار الشعب الأرجنتينى عما تعانيه البلاد من أزمات اقتصادية وتزايد معدلات البطالة وتدهور لقيمة العملة بسبب الحكم العسكرى. ومثلت محاولة استرداد جزر فوكلاند (تحتلها بريطانيا) بالطرق العسكرية مخرجا وطنيا لإعادة ثقة الشعب فى النظام العسكرى الحاكم، الذى صور العملية على أنها خطوة وطنية شجاعة لاستعادة هيبة الأرجنتين.
هل تكون علاقة مصر بالقوة الكبرى فى عالم اليوم، وذريعة التدخل فى الشأن الداخلى المصرى، بمثابة «حرب فوكلاند المصرية». هل يقدم المجلس العسكرى على مزيد من التصعيد مع واشنطن، وهل سيأخذ المبادرة ويرفض المساعدات العسكرية الأمريكية بدعوى حماية الكرامة المصرية! هل تكون العلاقات المتينة وشديدة الخصوصية بين المجلس وواشنطن هى طوق النجاة الوحيد الذى يمكن للمجلس توظيفه واستغلاله للحفاظ على مكانته ومصالحة وشعبيته؟!.. سوف نرى.