لعنة وعقاب
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 29 يناير 2020 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
لم يكد يمر شهر من السنة الجديدة حتى تهيأ لى أن أحداثا بإمكانها أن تملأ عاما بأكمله قد انهالت على المنطقة العربية، حتى بت أتساءل إن كان ثمة قرار إلهى يقضى بأن يعيش سكان الشرق الأوسط على أصوات قرع طبول الحرب طوال الوقت. لا أعرف إن كانت الأحداث فى السنوات الأخيرة أكثر زخما من تلك التى سبقتها أم أننى بت أكثر التصاقا بالأخبار، إنما ثمة ثقل لم يعد محمولا ولا منطقيا فى عدد وحجم الصفعات التى تنهال على الشعوب، على الأفراد، على أشخاص ربما لم يعودوا يطلبوا اليوم سوى قوت يومهم وسلامته عائلاتهم.
***
ولكن ليست كل الصفعات خارجية، وليس كل الضرر من الغرباء. نحن على ما يبدو نمر بمرحلة انطفأت فيها جميع النجوم فوق رءوسنا فلم يعد يضىء طريقنا شىء. نفق طويل لكن لا نور فى آخره، توقفنا فى منتصفه لا نعرف كيف نتقدم أو نعود أدراجنا. يسمى البعض هذه المرحلة عنق زجاجة لكن يبدو أن نافخ الزجاج قد شكل زجاجة كاملة على شكل عنق ضيق حشرنا فى داخله.
***
يجلس فجأة بقربى شخص كنت قد تعرفت عليه من خلال العمل ويسألنى: ما كل هذا الصخب؟ ماذا يحدث فى منطقتهم، فأنا حديث العهد فيها. أتسطيعين أن تشرحى لى بشكل مبسط بعض الأمور الأساسية التى سوف أفهم العالم من حولى من خلالها؟ يقول إنه لم يهتم بالسياسة قط ولا يميز بين موضوع وآخر بل ولا يعرف أسماء رؤساء الدول. أظنه يمزح فى بداية الأمر فأمشى معه فى حديث غير جدى أقول فيه أن لا شىء يحدث فى المنطقة، فبإمكانك أن تعود بعد عشرين عاما لتجد هذا الرجل الذى أشير إليه قد شاب شعره وغطت التجاعيد أطراف عينيه لكنه ما زال جالسا هنا أمامه فنجان قهوة وطاولة للعب. سرعان ما أكتشف أن ذلك الشخص فعلا لا يعرف شيئا عن المنطقة وغير مهتم بالسياسة البت رغم أن أصوله من هنا.
***
هل بإمكان أحدنا أن ينسلخ تماما عن الأحداث من حوله فلا يتأثر بالتغييرات ولا يشعر بالدم يتجمع فى رأسه من الغضب ولا يرقص فرحا لسقوط رمز للقمع؟ هل فعلا باستطاعة شخص أن يمضى حياته متجولا قرب الأحداث دون أن ينجر خلف محاولة فهم تأثيرها عليه وعلى من حوله؟ إن كان ذلك ممكنا فأنا نفسى أتمنى أن أدخل هذه الحالة ولو لمدة مؤقتة. أتمنى أن أجد زرار أضغطفه فتنطفئ الشاشة، شاشة عقلى وشاشة قلبى، فهما مصدرا أرقى وتوترى الدائم هذه الأيام.
***
لطالما ردد من حولى أن منطقتى هى نبع الحضارات وعليها أقدم المدن المأهولة بالسكان، لقد اخترعنا الكتابة واكتشفنا العلوم وتوقف طريق الحرير عند محطات عديدة أسماؤها عربية. أنا اليوم متعبة من هذا الحمل، أتساءل طوال الوقت عمَّ أريد أن يرثه أولادى من لغة وثقافة ورموز لن يفكوها إلا لو شرحتها لهم ضمن سياق السياسة. قال الشاعر نزار قبانى يوما إنه متعب بعروبته، محظوظ هو أنه لم يعش حتى يومنا هذا ورأى جوابا لسؤاله عم إن كانت العروبة «لعنة وعقاب».
***
أين أذهب من هذه اللعنة، كيف أخلع نفسى عن منطقة ولغة وأمثال شعبية تمسكنى من رأسى حتى أخمص قدمى؟ أينما أشيح بوجهى أرى شجرة نارنج وكيفما أتنفس أشم رائحة ماء الزهر وصابون غار غسلت به جدتى يديها؟ اللعنة تلتصق بالمكان وبمن فيه ولا تتركهم، أنا أسيرة اللعنة أحمل لغتى معى حيث أذهب، وأحمل الحرب أيضا. أدخل بلدا جديدة مثقلة برائحة المعارك وبكلمات الشعراء. أطبخ على نغم الحنين الذى يسكنى روحى فى أول أيامى فى الغربة وأعود وأنا أعد نفسى أننى سوف أتكيف مع اللعنة.
***
أحمل بلدى على ظهرى كما تحمل السلحفاة بيتها. ومع الوقت أظن أننى أخلق داخل بيت السلحفاة بلدا أسميه بلدى إنما هو فى الحقيقة من صنع خيالى. أغنى على إيقاع الطبلة وأحلف أن لا آلة موسيقية مثلها تخفى الحزن فى نقرتين. هى لعنة التصقت بجلدى فلا أقوى على اقتلاعها وأغار من الزميل الذى يؤكد لى أنه لا يفهم شيئا بالسياسة فتمضى به السنوات هكذا، لا يلتفت للمؤامرات والقرارات التعسفية وأثرها على من حوله. يعمل بضمير ويهتم بعائلته بإخلاص ويسأل عن أصدقائه بمحبة إنما لا يخفق قلبه خوفا على تغيير فى الخريطة ولا يتأثر بأخبار عن تغيير فى النظام السياسى. أما أنا فأكتب كلمات نزار قبانى على جدران بيتى داخل بيت السلحفاة:
أنا يا صديقتى متعب بعروبتى
فهل العروبة لعنة وعقاب؟
أمشى على ورق الخريطة خائفا
فعلى الخريطة كلنا أغراب