العدل الدولية.. ما بين استشارية الاختصاص وقانونية الإلزام
إيريني سعيد
آخر تحديث:
الخميس 29 فبراير 2024 - 7:15 م
بتوقيت القاهرة
تعددت الدعاوى المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، الذراع القضائية للمؤسسات الأممية، ما بين الدعوى والتى تقدمت بها جنوب إفريقيا كأول دولة تقدم على مقاضاة إسرائيل منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى، وبين الدعوات التى تقدمت بها أكثر من 52 دولة من مختلف دول العالم، وبناء على طلب الأمم المتحدة من محكمة العدل رأيها الاستشارى حول ما يجرى من ممارسات إسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية، وهو نفس الرأى غير الملزم بشأن الآثار القانونية الناشئة عن سياسات وممارسات إسرائيل فى الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فى ذلك القدس الشرقية، وهو ما تم إقراره وبإجماع جميع الدول العربية، فيما انقسمت الدول الغربية بشأن القرار، حيث أيده 87 صوتا وعارضه 26، كما امتنعت 53 دولة، ومن ثم توالت الدعاوى والمرافعات من قبل الدول.
ولعل المرافعة المصرية والتى تقدمت بها د. ياسمين موسى عدت فى مقدمة الدعاوى التاريخية، فقبيل تمكنها من تفنيد الممارسات الإسرائيلية الإجرامية بالأراضى الفلسطينية المحتلة، دفعت بموسى بالدعوى الصريحة ومفادها غياب البعدين الشرعى والقانونى للوجود الإسرائيلى من الأساس على الحدود الفلسطينية التاريخية، ومنه تطرقت إلى التفنيد الصريح لهذه الممارسات منتقلة من السياسات الإسرائيلية العامة فى غزة والقائمة على المحاصرة بالتجويع وغياب الخدمات، إلى السياسات الإجرامية المتجزئة فى الهجمات الدموية على المستشفيات والمخيمات، وعليه تمكنت من إحداث مواجهة حقيقية بين المؤسسات الدولية وما يدور فى بلد يعانى من كارثة إنسانية حقيقية، عدت بمثابة إشكالية، أصبح من الصعب التعاطى معها، والأهم هنا وخلال نفس المرافعة، هو الإلزام الواضح من قبل مصر للأمم المتحدة بمسئوليتها الكاملة عما يجرى فى فلسطين بالتطرق إلى نصوصها الأممية والتى تتعارض بشكل قاطع حول ما تقتضيه وتنصه، وبين ما تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين والفلسطينيات وبحسب نص المرافعة: «الاحتلال الممتد لعقود لا يمكن أن يكون متسقا مع القانون الدولى، وما يستخدمه من قوة غير متناسبة بحق المواطنين الأصليين يعد دليلا على ذلك.. إسرائيل ليس لها الحق فى الاستيلاء على الأراضى الفلسطينية باستخدام القوة لأنه لا يوجد شرعية فى ذلك بحسب قرار مجلس الأمن الدولى رقم 242 والذى ينص على أنه لا يمكن للدولة أن تحتل أراضى دولة أخرى بالقوة وهذا ما ينطبق على الصراع والاحتلال الإسرائيلى.. مواد ميثاق الأمم المتحدة وتحديدا المادة 32، بها نص حول الاستيلاء على أرض الآخرين.. وهناك أكثر من قرار صدر عن مجلس الأمن الدولى وتحديدا 471 والذى نص على أن هناك ضرورة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية منذ عام 67 بما فيها القدس الشرقية».
غير أن حالة الإخفاق الواضحة والتى أبرزتها المؤسسات الأممية، بخصوص التعاطى مع الصراع الدائر بين الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى، شككت إلى حد يذكر فى إمكاناتها وقدراتها، سيما مع اللوائح والمواثيق والتى تضمن بما لا يدع مجالا للشك تسييس هذه المؤسسات وإخضاعها للكبار، وهو ما نعاصره فى أزمتنا العربية هذه، فحتى الدعوى والتى تقدمت بها الجزائر أمام مجلس الأمن منذ أيام، ومن أجل إيقاف دائم للنيران، تمكنت الولايات المتحدة من استخدام حق الفيتو، فى تقويض دعوتها وتمكين إسرائيل من ممارساتها الوحشية، فإذا كان مجلس الأمن والمنوط به إلزام الدول وإلا ستتحمل الجزاءات ومواجهة قوة مجلس الأمن ربما الجاهزة من أجل إجبارها، وكله فى أطر حفظ السلام والأمن الدوليين وبموجب الوثائق الأممية، أخفق فى ممارسة هذه السلطات، فماذا عن محكمة العدل الدولية؟! والتى تأخذ معظم قراراتها فى إطار غير إلزامى لأى دولة، ما برز انعكاساته فى التغيب الإسرائيلى عن جميع الجلسات، وإن جاءت قراراتها فى أطر مواجهة الإبادة الجماعية والسماح بإدخال المساعدات.
وربما لا يفهم بمعزل عن اتساع رقعة الضغط السياسى على المستويين الإقليمى والدولى ــ ومع تراجع قانونى واضح للأزمة كما أشرنا أعلاه ــ هو تراجع إسرائيل عن عملية التجاهل للمحكمة الدولية، عبر صياغة وثيقة أهم ما قد يأتى فيها، هو إعلان حالة ولو جزئية من الانصياع للمحكمة وقراراتها، عبر الحديث عن ما تم تنفيذه من هذه القرارات، بحسب الإعلام الإسرائيلى قبل أيام.
إلا أن تركيبة وآليات هذه المحكمة القضائية الدولية وما تقتضيه مهامها من اختصاص قضائى بموجبه، تتدخل للفصل فى المعاهدات الدولية عبر تفسير القوانين والأعراف، أو فى التحقيق فى خرق لأية من هذه القوانين والأعراف الدولية، غير أن اختصاصها الاستشارى ــ وهو ما نعاصره هذه الأيام وبناء على طلب الأمم المتحدة ــ يقتضى تقديم هذه النوعية من الآراء وبناء على شهادات ودعوات الدول والتى كانت نفس المحكمة قد طرحت الدعوة لهم ومن أجل الاستماع إلى دعواتهم، ومن ثم تقوم المحكمة بتشكيل رؤيتها ورأيها الاستشارى المطلوب منها، حيث تستقبل الطلبات من المؤسسات الأممية وفى المقدمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وذلك للفصل المفترض فى القضايا والصراعات الدائرة.
وبحسب المادة 38 من النظام الأساسى لمحكمة العدل الدولية: «تطبق المحكمة، التى تتمثل مهمتها فى الفصل وفقا للقانون الدولى، فى النزاعات المعروضة عليها: الاتفاقيات الدولية، سواء كانت عامة أو خاصة، التى تحدد القواعد المعترف بها صراحة من قبل الدول المتنازعة، العرف الدولى، كدليل على ممارسة عامة مقبولة كقانون، المبادئ العامة للقانون المعترف به من قبل الدول المتحضرة، مع مراعاة أحكام المادة 59 والقرارات القضائية وتعاليم أمهر الدعاة من الدول المختلفة كوسائل فرعية لتقرير أحكام القانون، لا يخل هذا الحكم بسلطة المحكمة فى الفصل فى قضية حسب الإنصاف والحسنى، إذا اتفق الأطراف على ذلك».
ما يضعنا وبما لا يدع مجالا للشك فى عدة من التساؤلات، حول مدى جدوى الذراع القضائية الأهم للأمم المتحدة! وهل تمكنت من صياغة الدور والتى أنشئت لأجله؟ بل ماذا عن حجم الفجوة الحقيقية بين صلاحياتها ومقتضياتها، وبين مدى فعاليتها فى حسم القضايا والصراعات الشائكة؟