درس هندى
عبد العظيم حماد
آخر تحديث:
الأحد 29 مارس 2009 - 8:44 م
بتوقيت القاهرة
هذه دروس فى مهنة الصحافة لمن يريد أن يتعلم، الدرس الأول جاء من ديفيد مارتن مراسل شئون القومى فى قناة C.B.S، فبينما استهل غيره من مراسلى الصحف ووكالات الأنباء والشبكات الإخبارية التليفزيونية الاتصال بـ«الشروق» للتحقق من قصة الغارات الجوية على شرق السودان، ومعرفة المزيد عنها، بل محاولة استدراجنا للكشف عن مصادرنا، ظل هو يبحث وينقب لمدة يومين حتى توصل هو إلى قصته الخاصة، من مصادر وزارة الدفاع الأمريكية، ثم جاء من بعده من استكملوا المهمة فى قناة الجزيرة، وصحيفة نيويورك تايمز، ثم الصحف الإسرائيلية، دون أن يحاول أحد منهم الاعتماد على أسهل المصادر التى هى فى حالتنا هذه «الشروق».
فى هذا السياق لا داعى بالقطع لتذكر أولئك الذين اعتبروا الصحافة ألقابا، وكراسى وماركات سيارات، وتربيطا مع رجال أعمال ومانحين أو مانعين حكوميين.
أما الدرس والأهم من وجهة نظرى فقدمه جاك شنكر المعلق «هندى الأصل» فى صحيفتى التايمز والجارديان البريطانيتين، والذى كتب تحقيقا حول «ظاهرة» «الشروق» الصحفية، وحول قدرتها، وهى الوليد الحديث، عن صنع العناوين الرئيسية فى صحف العالم، وقد نشرنا أمس بعض أجزاء هذا التحقيق فى الصفحة الأولى، وأترك اليوم بقية المساحة لنص تحقيق «شنكر» بوصفه درسا فى التقويم المنهجى، واستقصاء جميع وجهات النظر، حتى إذا لم نكن نوافق عليها، وهو يقدم تقويما لظاهرة الصحافة المستقلة فى مصر، ولظاهرة «الشروق» فى هذا السياق الأشمل..
يقول جاك شنكر:
مثل أى مجموعة من المراهقين المشاكسين، الذين بدأوا لتوهم فى تذوق الحرية، بدأت الصحافة المستقلة فى مصر فى الازدهار خلال الأعوام الماضية. وفى ظل حالة من التوهج بفعل النجاحات التى حققتها فى كشف عدد من الفضائح الحكومية الخطيرة، وخلق قاعدة جديدة من الفقراء، وكسر احتكار الصحف المملوكة للدولة، ساد مزاج من الانتعاش، على الأقل حتى بداية العام الحالى، عندما أتى الطفل الجديد، «الشروق».
حققت الصحيفة هذا الأسبوع ما قد يثبت أنه واحد من أهم أعمال السبق الصحفى خلال هذا العام، حيث نشرت تقريرا بشأن ما قالت إنه غارات جوية سرية لمواجهة عمليات تهريب الأسلحة فى السودان. وفى ظل التمويل الضخم والطموحات الكبيرة لجريدة «الشروق»، استطاعت الجريدة أن تصنع العناوين الخاصة بها. لكن هناك أيضا من يشككون فى أن الجريدة لديها الاشتهاء أو الأسلوب أو نموذج الأعمال، الذى يجعلها قادرة على النجاح.
أنشئت جريدة «الشروق» بواسطة «دار الشروق للنشر»، التى أسست منذ 40 عاما وتمثل إحدى دعائم النشر الحديث فى مصر، وقد ألقت الجريدة بنفسها فى سوق مزدحمة وحساسة. فمن جهة، تعانى الصحف اليومية من منافسة عنيفة فى ظل الانكماش العالمى الذى يواجه هذه الصناعة. ومن جهة أخرى، فإن على هذه الصحف الحفاظ على توازن صعب، عبر محاولة تحدى الخطوط الحمراء التى تضعها الحكومة، والتى عادة ما تكون غامضة نوعا ما، وفى نفس الوقت عدم السير طويلا فى هذا الطريق حتى لا تستفز النظام.
وقد سجلت شبكة النشر العربية بدقة المحاكمات التى يتعرض لها الإعلام المستقل فى مصر، منذ ظهر هذا القطاع بصدور المصرى اليوم عام 2004، وعودة الدستور ــ التى تم حظرها فى الماضى ــ فى عام 2005. والسؤال هو لماذا ترغب «الشروق» فى القفز إلى القاطرة بالرغم من صعوبة تحقيق أرباح مرضية، إضافة إلى التهديدات القانونية والضربات الأمنية التى تتعرض لها الصحف المستقلة فى مصر.
قد يكون أحد الإجابات عن هذا السؤال هو أن «الشروق» تسعى لأن تتميز بطابع ثقافى رفيع، يأخذ من الأهرام، الصحيفة الحكومية الكبرى، أكثر مما يأخذ من الصحف المستقلة المنافسة. فمن جهة، لا تتخذ «الشروق» الطبيعة العاطفية، كما هو الحال فى المصرى اليوم والدستور. وهو ما ساعد عليه جزئيا قيامها باستكتاب نجوم كبار فى عالم الصحافة، مثل فهمى هويدى وسلامة أحمد سلامة. ومن جهة أخرى، تتخذ «الشروق» موقفا سياسيا أقل تحديا فيما يتعلق بالموضوعات المثيرة للجدل.
وبالرغم من أن هذا النهج أثار انتقادات نشطاء المعارضة، رأى بعض المعلقين أنه يمثل خطوة مهمة، فى طريق اكتساب الصحافة المستقلة فى مصر النضج، ومن ثم المصداقية، التى تحتاجها كى تواصل التقدم. ويلاحظ «العربى»، المدون النشط الذى يكتب كثيرا عن الإعلام المصرى أن «إبراهيم المعلم، صاحب دار الشروق، ليس رمزا معارضا، أو شخصا يتخذ مواقف شجاعة ضد الحكومة، مثل إبراهيم عيسى رئيس تحرير الدستور. هو يدير الجريدة وفقا لوجهة نظر أكثر مهنية، وأسلوب أقل صخبا وأعتقد أن ذلك هو ما تحتاجه السوق، التى يسود بها توجه حاد لإظهار الحكومة بصورة سلبية».
وإذا ما كانت «الشروق» تستهدف أولئك القراء الذين ما زالوا متمسكين بنهج الأهرام، فإن الوقت الحالى هو أنسب الأوقات للصدور. فما زال ثلاثة أرباع الإعلام المصرى رهن السيطرة الحكومية، لكن الصحف المملوكة للدولة تواجه مأزقا هائلا. فيعتقد أن الإصدارات الحكومية مدينة بنحو 5 إلى 6 مليارات جنيه (877 مليون دولار ــ 1.6 مليار دولار)، كما أن هناك حالة إحباط شديد بين الصحفيين بسبب ضعف الأجور، وزيادة العدد على المطلوب فى صالات التحرير. (ففى الأهرام وحدها، هناك 1400 صحفى)، كما أن مستوى التغطية الصحفية عادة ما يكون منخفضا. وتحظى «الشروق» بالموارد المالية الكافية لتجتذب أهم كتاب الأعمدة، كما أنها استطاعت توقيع اتفاقات مع صحف عالمية مثل «النيويورك تايمز»، مما يسمح لها بترجمة ونشر بعض موضوعات هذه الصحف، وهى الخطوة التى يعتبرها البعض قادرة على تحدى الصحف العربية الأخرى مثل القدس العربى والشرق الأوسط، واللتين تصدران من لندن.
وعلى أى حال، سوف نرى ما إذا كانت هذه المحاولة لتوسيع سوق الإعلام المستقل فى مصر ليبلغ اتجاهات جديدة، سوف تكون كافية لتحقيق الاستقرار لــ«الشروق» على المدى الطويل.
ويقول الخبير الإعلامى فى الأهرام، الدكتور حمدى حسن، مشكلة الصحف الجديدة ليست ما استطاعت القيام به، ولكن ما فشلت فى القيام به. «بينما يرتفع متوسط عمر قراء الصحف، فإن ما نحتاجه هو رؤية ولغة تحرير جديدين بالفعل، لأجل جذب القراء الأصغر سنا. وقد توقعت أن تنجح «الشروق» فى كل ذلك وأن تصبح قادرة على المنافسة، ولكنها للأسف لم تستطع ذلك. ففى بعض مناطق العالم الأخرى، تسعى الصحف إلى الابتكار، كما يحدث فى أمريكا حيث تجرى أبحاث حول جمهور القراء، وبريطانيا حيث يتم إنتاج صحف التابلويد الجديدة والصحف المهجنة. لكنه ثبت أن «الشروق» نسخة شبيهة بما هو موجود، وهى مشروع لا يمكن أن ينجح أبدا».
وفى ظل غيبة البحوث الموضوعية حول عادات القراء فى مصر، يصعب إدراك كيفية اتخاذ المصريين قرارهم بشأن شراء هذه الصحيفة أو تلك. ويعتقد «العربى» أن نجاح «الشروق» سوف يتوقف على قدرتها على تحقيق السبق الصحفى الكبير. ويضيف: «لم يتوقع أحد أن المصرى اليوم سوف تستطيع الصمود عندما ظهرت فى الأسواق، لكنها صنعت اسمها عبر التقارير التى انفردت بها خاصة وقت الانتخابات البرلمانية، لسنا فى وقت الانتخابات الآن، لكن لدينا دورة إخبارية يومية مدتها 24 ساعة، وهو ما يجعل الصحف المستقلة قادرة أكثر من أى وقت مضى على كشف الفضائح وإجبار الحكومة على التعليق فى نفس اليوم. إذا ما استطاعت «الشروق» أن تصبح جزءا من هذه العملية، فسوف تزدهر لاشك. إن أسلوب التحرير المتماسك والقوى سوف يخلق سوقه الخاصة».
وبينما يستمر الجدل حول مصير الصحافة المستقلة، يشعر البعض بالتفاؤل لمجرد وجود هذه الصحافة فى مصر. وفوجئ البعض بأن «الشروق» وأربع صحف مستقلة أخرى استطاعت الحصول على ترخيص بالصدور فى يونيو الماضى بالرغم من العلاقات الشائكة بين نظام مبارك والصحافة المستقلة. ويقول لورنس بنتاك، مدير مركز كمال أدهم للصحافة فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ومحرر Arab Media and Society «أعتقد أن سماح الحكومة المصرية بإصدار «الشروق» يعبر عن حالة الفصام التى تنتاب هذه الحكومة تجاه وسائل الإعلام. ومن الواضح أن الصحيفة ما زالت تحاول صياغة هويتها، لكن وجودها فى حد ذاته يعد علامة جيدة حول مستقبل الصحافة المصرية المستقلة.
كل ما أضيفه فى النهاية إلى تحقيق شنكر من تعليق.. هو أننا ندرك هوية «الشروق» منذ اللحظة الأولى.. فهى صحيفة لا تنتمى إلا إلى المهنة والقارئ والوطن.. أما صياغة الهوية فهى بالقطع عملية مستمرة ولا تتوقف حتى على مستوى الأفراد والجماعات والدول.