المفلسـون
شريف عثمان
آخر تحديث:
الجمعة 29 مارس 2013 - 9:00 ص
بتوقيت القاهرة
تلجأ الدول عادة للاقتراض عندما تزيد نفقاتها على إيراداتها خلال العام، وهو ما يظهر عند اعداد الموازنة العامة للدولة لكل سنة، فاذا كانت نفقات الدولة أكثر من ايرادتها فى أى سنة يظهر ما يطلق عليه «عجز الموازنة». وفى مصر، نعانى من عجز شبه دائم فى الموازنة، بدأ منذ عشرات السنين واستمر حتى يومنا هذا. وتم تقدير هذا العجز بمائة وثمانين مليار جنيه فى بداية السنة المالية الحالية.
وتكمن المشكلة الأساسية فى ميزانية الدولة المصرية فى أن العجز يزيد كل عام، وأن نسبة كبيرة من النفقات تكون غير اختيارية بالنسبة لصانع القرار، على الأقل على المدى القصير. فمن ناحية نجد أن ما يقرب من 30% من هذه النفقات تذهب لدعم الغذاء والوقود، و30% أخرى تغطى أجور ورواتب للعاملين بالدولة (القطاع الحكومى)، و30% أخرى فوائد للدين العام، ويتبقى أقل من 10% من اجمالى النفقات، تذهب لتطوير التعليم والصحة والبحث العلمى، فيبقى الفتات فقط ليتم توجيهه لاستثمارات تقلل الاحتياج للاقتراض فى السنوات التالية.
ولا يتعين على الحكومات دائما العمل على سداد مديونياتها عند استحقاقها، فربما تلجأ تلك الحكومات لترحيل المديونيات إلى الأمام، ويحدث ذلك بصفة خاصة حين تكون الدولة فى مرحلة بناء بعد حرب أو ثورة، ويكون ذلك عن طريق الاقتراض مجددا لسداد القروض القديمة. لكن من الضرورى فى هذه الحالة أن يوجه جزء من هذه القروض للاستثمار لكى تستطيع الدولة تخفيض مديونياتها، إلى أن تستغنى تماما عن القروض.
•••
ويتم الاقتراض عادة عن طريق بيع أذون وسندات الخزانة للبنوك والشركات والأفراد، لكن تزداد المشكلة تعقيدا فى حالة وجود عجز موازٍ فى ميزان المدفوعات للدولة، بحيث يصبح الاقتراض الداخلى (او حتى ترشيد الانفاق الحكومى الموجه للأجور والدعم) غير مجدٍ، فتلجأ الدولة وقتها إلى الاقتراض الخارجى، عن طريق السماح ببيع أذون وسندات الخزانة المقومة بالجنيه المصرى للأجانب (بنوك أو شركات أو افراد) أو بيع أذون وسندات دولارية (أو بأى عملة أخرى) حتى تتحصل على العملة الاجنبية المطلوبة لسداد العجز فى ميزان المدفوعات (الذى يكون بالدولار)، وتستخدم القيمة المقابلة له بالجنيه المصرى فى سد عجز الموازنة، أو عن طريق الاقتراض المباشر من دول صديقة (أو تريد أن تكون صديقة) ومؤسسات دولية (لديها دوافع شتى للمساعدة)، وهذا الحل الخارجى قامت به الحكومات المصرية المتعاقبة وازدادت وتيرته ابتداء من 2001 وبصورة أكبر بعد ثورة يناير المجيدة.
وتفلس الدول حين يأتى موعد استحقاق جزء من ــ أو كل ــ ما اقترضته (بالعملة المحلية أو العملة الأجنبية) ولا يكون لديها ما تسدده، ولا تستطيع الاقتراض لسداده، إما بسبب اضطراب سياسى أو لوجود انهيار اقتصادى يشكك فى قدرة تلك الدولة على سداد ما تقترضه. فيتوقف الجميع عن اقراضها وتتوقف الدولة عن سداد ما اقترضته.
•••
وهنا يجب التفرقة بين سداد الديون المقومة بالعملة المحلية وتلك المقومة بالعملة الاجنبية. فالعملة المحلية تصدرها الدولة، وبالتالى يكون لديها امكانية الطباعة (عن طريق البنك المركزى) عندما لا يتوفر لديها ما تسدد به ديونها، ورغم أن الطباعة تكون وفقا لمحددات واضحة يضعها البنك المركزى نصب عينيه طوال الوقت، الا أن هذا البديل يظل متاحا». وعلى الرغم مما تؤدى اليه زيادة المطبوع من النقود ــ بدون زيادة مقابلة فى الناتج المحلى ــ من ارتفاع معدلات التضخم، الا أن هذه الآلية وحدها تضمن دائما تحقق القاعدة الشهيرة التى تقول إن الدولة لا يمكن أن تعجز عن سداد ديونها المقومة بعملتها المحلية A country cannot default on its local currency.
لكن هناك الديون المقومة بالعملة الاجنبية، وحيث إن الدولة لا تقوم بطباعة اوراق النقد الخاصة بتلك العملة، فيبقى دائما احتمال أن تعجز الدولة عن سداد التزاماتها بالعملة الأجنبية وتعرضها للإفلاس.
وفى هذه الجزئية تحديدا، فإن وضع الحكومة المصرية لم يصل إلى تلك الحالة من التدهور. فالديون الخارجية لمصر ما زالت فى الحدود الآمنة بالمقاييس المتعارف عليها (تمثل حوالى 15% فقط من الناتج المحلى الإجمالى) كما أن استحقاقاتها متفرقة (بحيث لا يستحق مبلغ ضخم فى تاريخ واحد) وبعيدة (فأقرب موعد لاستحقاق سندات مصرية بالعملة الأجنبية هو 2020) كما أن القروض الجديدة التى تم الحصول عليها من السعودية وقطر وتركيا لن تستحق قبل عام 2015، وأذون الخزانة المباعة بالعملة الأجنبية يتم تجديدها وعادة ما تكون البنوك مستعدة لشراء كميات أكبر مما تحتاجه الحكومة، وبالتالى فإن احتمالات افلاس مصر تعتبر ضعيفة جدا فى الوقت الحالى، بعكس ما يحاول بعض المغرضين اشاعته، وهو ما حاول الرئيس مرسى توصيله للشعب حين قال ان «من يتحدثون عن إفلاس مصر هم المفلسون»، الا أن هذه العبارة اتخذت ــ كغيرها ــ مثارا للسخرية والتندر والهزل، فى وقت لا نملك فيه هذه الرفاهية.
مشكلة مصر الكبرى هى أن نسبة كبيرة من الشعب تريد أن تستهلك أكثر مما تنتج وأن تنفق أكثر مما تتكسب وأن تحصل على أجر أكبر كثيرا» مما تقوم به من عمل، وتشترى المستورد وتتعالى على الصناعة المحلية، ولا تستمتع الا بالسفر للخارج وبعثرة العملة الأجنبية التى نعانى جميعا» من ندرتها، وهو وضع لا يستقيم، ولا يؤدى الا لخراب الاقتصاد.
لكن لو أخذنا فى الاعتبار الأهمية الجيوبوليتيكية لمصر، وايضا ما تملكه من بدائل لتحقيق معدلات نمو مرتفعة وتوفير ايرادات قياسية فى المستقبل بمجرد استقرار الأوضاع السياسية، فان احتمالات افلاس مصر تكاد تكون منعدمة. فلدينا اصول عديدة غير مستغلة على النحو الأمثل، من شواطئ وآثار فرعونية ودينية لا مثيل لها فى أى مكان فى العالم، ومناخ معتدل إلى حد كبير أغلب فترات العام، وفرص كبيرة لسياحة فى صحراء وجبال وأودية وواحات مصر، كما تتعدد فرص الاستثمار الأجنبى المتاحة فى مدن القناة وفى الصعيد والوادى الجديد وبطول الساحلين الشمالى والشرقى وغيرها. ولكل ما سبق، فإن الافلاس المادى والمالى لن يكونا ما اخشى على مصر منه، وانما اخشى عليها من الافلاس الذى عناه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين قال: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ. يَأْتِى وقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ
ويزداد قلقى عند الجلوس لدقائق أمام شاشة التلفاز ابتداء «من التاسعة مساء فى أى يوم وعلى أى قناة فضائية مصرية، بغض النظر عن انتمائها، أو كلما مشيت فى شوارع القاهرة وشاهدت ما يحدث بين أهلها من سباب وشجار لأتفه الأسباب، ناهيك عما يحدث على مواقع «التراشق» الاجتماعى، وكلها مظاهر تؤكد أننا فى حالة حرب أهلية ونحن لا ندرى، كما تؤكد اقترابنا جميعا من الافلاس وهو ما ينذر بيوم أسود حين نقف بين يدى الله مفلسين فى وقت يتعذر فيه الاقتراض، عافانا وعافاكم الله.