اعتزال مؤرخ
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 29 أبريل 2016 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
• أراد المؤرخ العربى الشهير أن يكتب عن حقبة الحكام الديكتاتوريين الذين قامت ضدهم الثورات فى السنوات الأخيرة، تحير ماذا يكتب عن هؤلاء الحكام وعن هذه الثورات.
• لم يطاوعه قلمه فى هذه الليلة على غير عادته، جفاه النوم فاضطر أن يتناول قرصا مهدئا أدخله سريعا فى النوم، رأى فى نومه صدام حسين الذى ابتدره سريعا: «أنت تريد أن تكتب عنى أننى ديكتاتور وجبار وقاس».. هذا صحيح، وأنى قصفت الأكراد بالأسلحة الكيماوية لأنهم أرادوا الانفصال بالتعاون مع الحرس الثورى الإيرانى الذى دخل كردستان، وأننى حاربت إيران سنوات طويلة ثم غزوت الكويت دون مبرر، ستقول إننى السبب فى مصائب العراق أليس كذلك، لماذا لا تكتب عن الأمن والأمان فى أيامى، والرخاء والعدل الاجتماعى وكفاية كل أسرة ما تحتاجها، وكانت العراق دولة يحسب لها الجميع ألف حساب.
• وإذا كنت أنا السبب فما بال العراق اليوم أسوأ بكثير مما كانت أيام حكمى، ما بال المتفجرات تدوى فى كل مكان، والقتلى والجرحى والمشردون والمعذبون أكثر، ولماذا تجرأ العراقيون على قتل بعضهم بعضا، تارة بالاسم وأخرى بالمذهب، وما بال كردستان قد انفصلت تماما، وما بال العراق محتلة من أمريكا وإيران، ومقسمة وممزقة وفقيرة، ما بال الأمن قد ضاع منها والجوع دخل بيوتها، وسرقت مواردها، وتهدمت جامعاتها ومعاهدها ونهبت آثارها، وأصبحت أرضها نهبا لميلشيات وجيوش الأرض.
• يا عزيزى المؤرخ بداخلنا جميعا ديكتاتور ومستبد نائم يستيقظ عندما يجلس أحدنا على الكرسى، والمشكلة ليست عندى فقط بل فى كل عراقى، الآن الديكتاتورية والاستبداد فى العراق أضعاف ما كان على أيامى، فضلا عن الاحتلال الأمريكى والإيرانى للعراق، تأمل تعذيب الأمريكيين حماة الديمقراطية للعراقيين ونتائج سيطرة إيران على العراق الذى يتحرك كل شيء فيه بالريموت الإيرانى، ويخدم مصالح طهران.
• انظر إلى عدد الميلشيات المسلحة وجرائمها فى العراق، كنت ديكتاتورا واحدا والآن هناك مليون ديكتاتور.
• ركل صدام صاحبنا المؤرخ بقدمه فاستيقظ مذعورا، ثم نام بصعوبة مرة أخرى فجاءه القذافى قائلا له: ستكتب عنى أننى حكمت ليبيا بالحديد والنار، وكنت مغرورا، وأعتقد فى نفسى أننى أمين الأمة العربية وزعيم أفريقيا وملك الملوك، ستصب عليّ اللعنات لأننى حكمت ليبيا بالمراهقة السياسية وقدت سفينتها وأنا برتبة الملازم، هذا صحيح.. ولكن ضعف الملك السنوسى وتسامحه هو الذى أغرانى بهذه المكانة الكبيرة الذى لم أكن مؤهلا لها، ستكتب عنى أننى قصفت خصومى بالطائرات واحتضنت كل الإرهابيين وسلطتهم على الغرب وأسقطت طائرة لوكيربى وضيعت أموال ليبيا على مغامراتى ونزواتى وصنع الجاه الكاذب لى، استضفت أبو نضال ليهدد الحكومات العربية بدلا من الجهاد فى فلسطين.
• ولكن اكتب أيضا أننى نشرت الأمان فى ليبيا، هل استطاع ليبى فى عهدى أن يفجر أو يغتال، ستقول فعلت ذلك بالحديد والنار.
• نعم.. لقد فعلت أشياءً مشينة كثيرة، ولكن لى سؤال هام؟
• لماذا لم تصبح ليبيا ديمقراطية غنية آمنة قوية موحدة بعد قتلى، إذًا لست السبب وحدى فى تدهور حال ليبيا، هى الآن أسوأ من ذى قبل، ليست هناك ليبيا على الخريطة الآن، لا مال ولا أمان ولا حكومة ولا جيش ولا اقتصاد ولا مرتبات ولا تعليم ولا جامعات، ولكن هناك ميلشيات واغتيالات وثارات وأحقاد وقبليات.
• كلنا مستبدون وجبابرة وطغاة يا سيدى المؤرخ، المشكلة أكبر وأعمق من شخص القذافى، ألا تفهم أيها المؤرخ الغبى.
• انتفض الرجل مذعورا، ابتلع قرصا منوما عسى أن تذهب عنه هذه الكوابيس، غلبة النوم بعد حين ففوجئ بعلى عبدالله صالح وحسنى مبارك يكررون كلاما شبيها بذلك، وقريبا منه، لكنهم أكدوا على أنهم أعقل كثيرا من صدام والقذافى، ولم يورطوا بلادهم فى حروب خارجية، وتساءل كل منهم أسئلة متشابهة مفادها:
• لماذا الأوضاع فى بلادنا الآن أسوأ مما كانت على عهدنا، لقد كنا طغاة حقا، ولكن ماذا بعد أن رحلنا، هل استراح أهل اليمن؟ وهل حلت الديمقراطية فى مصر؟ هل خلت السجون من السياسيين؟ هل قل الصراع السياسى أم زاد؟ هل انخفضت الأسعار أم زادت؟ هل حل الحب أم غرست الكراهية والدماء والتفجيرات والسجون؟ هل حلت بالبلاد الهداية والتبشير أم وقعنا فى فخ التكفير والتنفير والتفجير والسجون والتعذيب؟
• احتار المؤرخ ماذا يكتب عن هؤلاء الحكام وعن الثورات التى قامت ضدهم، وماذا تغير بعدهم إيجابا وسلبا، توحدا وتفرقا، حبا وكراهيةً، رحمة و قسوة، انخفاضا للأسعار وارتفاعا، أمنا و خوفا، غنى وفقرا، حياة وموتا.
• هب المؤرخ من نومه، عزم أن يعتزل مهنة كتابة التاريخ، بعد أن اعتزل السياسة منذ سنوات، عكف على التدبر فى حكمة الله فى أقداره بعد أن يأس من أحوال الحكومات وقنط من مآلات الثورات وأحلام الثوار، كاد يُجَن من كثرة التفكير، فإذا كانت الحكومات والحكام يريدون الخير لشعوبهم، والثورات والثوار يريدون الإصلاح والعدالة، والشعوب طيبة، فأين الخلل إذًا؟!