أمركة القاهرة وغرق التجمع الخامس
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 29 أبريل 2018 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
التجمع الخامس وغيره من المنتجعات العمرانية التى نمت على صدر الخريطة الحضرية لمصر منذ الثمانينيات هو واحد من أعراض كثيرة لأمركة مدينة القاهرة، والمقصود بذلك شيوع التقليد لممارسات معمارية وأنماط سلوك أمريكية فى عاصمة ذات تراث عريق متعدد الروافد من فرعونى وقبطى وعربى وإسلامى. وهى ظاهرة يمكن أن نجد بعض أعراضها فى مدن أخرى فى العالم، ولكنها فى حالتنا المصرية تتجاوز حدود ما عرفته تلك العواصم الأخرى، وخصوصا بسعى النخبة الحاكمة للخروج منها، وهو ما ينذر بتفاقم مشاكل مجتمعاتنا فى المدن وفى الريف على حد سواء، بل ويمتد إلى سكان هذه المنتجعات الجديدة، على النحو الذى عرفه سكان التجمع الخامس الأسبوع الماضى. وذلك لأن سبب تفاقم هذه الظاهرة فى مصر هو انبهار غير نقدى بنمط حياة فى مجتمع آخر له ظروفه التى أنتجت نوعا خاصا من الإعمار، ونحن إذ ننقله نتغافل عن أسباب مشاكلنا الحضرية، ومن ثم نأخذ بحلول ابتدعتها مجتمعات أخرى، والنتيجة أننا ندفع ثمن هذا التغافل والتجاهل، وسوف نستمر جميعا فى دفعه سواء كنا من سكان هذه المنتجعات أو ممن يقيمون خارجها على امتداد الظهير العمرانى لمصر بريفه وحضره.
***
ومظاهر الأمركة فى مدينة القاهرة عديدة وهى تسبق ظهور المنتجعات العمرانية بثلاثة عقود على الأقل. أول مظاهرها هى انبثاق الأبراج الشاهقة على ضفاف نيل القاهرة، وهى محاولة متواضعة لتقليد نمط ناطحات السحاب الذى عرفته كثير من المدن الأمريكية، وخاصة حى مانهاتن فى مدينة نيويورك، وهو الذى ظهر كما هو معروف لحل مشكلة المساحة المحدودة لجزيرة مانهاتن، ومن ثم كان الحل هو ارتفاع المبانى على هذا النحو تلبية للضغوط الهائلة للإقامة فى مدينة هى العاصمة المالية والثقافية للولايات المتحدة قبل أن تكون شبه عاصمة للعالم بعد وجود منظمة الأمم المتحدة فيها. ومن الواضح أن ضيق مساحة مانهاتن لا ينطبق على القاهرة التى تحيط بها مساحات صحراوية هائلة، ولذلك كان امتدادها إلى مصر الجديدة ومدينة نصر اللتين لم تعرفا ظاهرة الأبراج الشاهقة هذه استجابة ذكية للأوضاع الخاصة بمدينة القاهرة. ومع ذلك امتدت الأبراج الشاهقة على ضفتى نيل القاهرة والجيزة. وكانت القوة الدافعة لهذه الموجة الأولى من أمركة العاصمة هو رأس المال الأجنبى خصوصا فى قطاع السياحة كما تشهد على ذلك الأسماء الأجنبية لهذه الأبراج وهى فى معظمها امتداد لسلاسل فنادق أجنبية، ثم لحقتها مؤسسات حكومية وخاصة مصرية وعربية بمبانى التلفزيون ووزارة الخارجية ومصارف مصرية كبرى وأخرى تملكها شركات خليجية ومصرية.
ثم كانت الموجة الثانية التى ارتبطت ببداية سياسة الانفتاح الاقتصادى فى مصر فى النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى، واستندت هذه الموجة إلى اعتقاد راسخ بأن كل ما يأتى من الخارج الغربى هو نموذج يستحق الاتباع، وربما كان ذلك أيضا تعبيرا عن تراجع الإحساس بالفخر بالشخصية الوطنية فى أعقاب هزيمة يونيو 1967، ولكن لم يكن هناك تمييز فيما يأتينا من الغرب، بل كان الإعجاب شديدا ليس بإنجاز الغرب العلمى والاقتصادى، ولكن كان الانبهار محصورا فى نمطه الاستهلاكى والمؤسسات التى تخدم هذا النمط. الخطوة الأولى هنا كانت بشيوع استخدام المسميات الأجنبية على واجهات المحال، ثم فى إطلاق التسمية الأجنبية على ما كان مؤسسات مصرية صرفة، فأصبح محل البقال الصغير يسمى سوبر ماركت، وأصبح متجر كبير يبيع ملابس للمحجبات بشوبينج سنتر، ومع توافر رءوس أموال ضخمة لدى مصريين وشركات خليجية امتدت هذه الموجة لكى تقيم سلاسل من الأسواق ومراكز التسوق داخل العاصمة ثم فى ضواحيها. وأغفل من أقاموا مراكز التسوق هذه المعروفة بالمولات أنها توجد فى ضواحى المدن الكبيرة فى الولايات المتحدة حيث تتوافر مساحات واسعة لتكون مآرب للسيارات ولكى تخدم أعدادا كبيرة من المترددين، أما فى القاهرة فهى فى قلب العاصمة، وأصبحت سببا مضاعفا للازدحام حتى فى الساعات المتأخرة من الليل عندما تغلق أبوابها ويخرج منها من ذهبوا لدور السينما العديدة التى يحفل بالعديد منها كل من هذه المراكز..
ولكن الموجة الثالثة من الأمركة هى التى قادتها الدولة بإشرافها المباشر على إقامة مجمعات عمرانية تخدم فى الأساس أصحاب الدخول المرتفعة من المواطنين بحجة أن ما تحصل عليه من دخل من هذه المجتمعات سوف يستخدم فى تمويل الإسكان لمتوسطى ومحدودى الدخل. وهو هدف لم يتحقق، فما زال الحصول على مسكن لائق يشكل تحديا هائلا للغالبية العظمى من المصريين، لا تتاح إلا لمن أسعده الحظ منهم وهاجر خارج الوطن، وقضى فى الغربة سنوات طوال مكنته من إدخار المبلغ الذى يكفى لشراء هذا المسكن الذى يندر أن يتاح بإيجار معقول.
هذه المنتجعات خارج المدن هى بدورها مؤسسة أمريكية وليدة ظروف خاصة بالولايات المتحدة. ارتفاع مستوى الجريمة فى المدن الأمريكية فى الستينيات من القرن الماضى وانتشار الفقر فى بعض أحيائها وتردى الخدمات فيها مع أزمتها المالية وصعوبة الحصول على منزل مستقل فيها لارتفاع أثمانه هو الذى دعى أقساما من المواطنين الأمريكيين البيض أساسا للاستجابة لعروض الشركات العقارية بامتلاك مسكن فى منطقة قريبة من المدينة الكبيرة فى مجتمع يتسم بالتجانس العرقى ويتوافر فيه الأمن لأنه محاط بأسوار وبوابات لا يسهل على غريب اقتحامها. ولذلك شاع هذا النموذج حينا من الزمن، ولكنه فقد بريقه مع تحسن الأمن فى المدن الكبرى، ومع المشكلات التى أصبح يواجهها سكان هذه المنتجعات فى الذهاب والعودة إلى ومن أماكن عملهم. ومن ثم بدأت الموجة المضادة فى العودة إلى المدن، بل وتحديدا إلى الأحياء التى كانت مستقرا للأقليات الفقيرة، فليست هناك مساحات واسعة فى المدن الكبيرة تكفى لاستيعاب من يريدون سكنا جيدا داخل المدينة وليس فى أبراجها الشاهقة. وهكذا بدأت الشركات العقارية فى تفريغ هذه الأحياء الفقيرة من ساكنيها برفع الإيجارات مما دفعهم للهجرة منها إلى خارجها، ثم تولت هذه الشركات إعادة تأهيل المساكن التى غادروها، والنهوض بالخدمات الأساسية فيها حتى أصبحت مناطق جذب لهذه الطبقة المتوسطة التى تعود إلى المدينة. أشهر الأمثلة على ذلك هو حى هارلم الذى كان مشهورا بسكانه من ذوى الأصول الإفريقية واللاتينية وشمال شرق مدينة واشنطن، وقد شهدت بنفسى ما جرى فيهما من تغير ديموجرافى وعمرانى.
***
هذا النمط من المنتجعات شاع فى مصر ليس حلا لمشكلة سكن، ولا لارتفاع مستوى الجريمة فى المدن، ولكنه على الأقل بالنسبة لبعض أعضاء النخبة الحاكمة الجديدة هو رمز للجاه والتميز الاجتماعى. كثيرون من أصحاب الفيلات فى هذه المنتجعات يملكون بالفعل شققا فى أفضل أحياء القاهرة ولكن إغراء المعيشة فى منتجعات بعضها مغلق عليهم ولا يختلطون فيها إلا بسواهم من أصحاب الدخل المرتفع والمكانة هو الذى يجتذبهم إليها، وهم يتحملون فى سيبل ذلك كل عناء السفر اليومى إلى هذه المنتجعات، والذى يقتطع بكل تأكيد ما لا يقل عن ثلاث ساعات يوميا إذا كانوا سيعودون إلى منازلهم مرة واحدة فى اليوم، أو ربما يفضلون الراحة فى شققهم التى ما زالوا يحتفظون بها فى القاهرة القديمة.
هذه الرغبة فى الهرب من العاصمة التاريخية للبلاد هى ما يميز بعض النخبة الحاكمة فى مصر فى الوقت الحاضر، وذلك بدلا من السعى لحل مشاكلها ليس فقط بالاهتمام بها ولكن بدفع التنمية الإقليمية ونشر الخدمات الثقافية والترويحية وتوفير فرص عمل مناسبة خارجها والتخفيف من المركزية الإدارية المفرطة وإيجاد السبل التى تسمح لسكان المدن والقرى بمساءلة المسئولين بتوفير سلطات مناسبة للأجهزة المحلية المنتخبة، لا نجد نخبة أخرى فى أى من البلدان ذات الحضارات العريقة يظهر هذا التعالى على عاصمته التاريخية. حاكم روسيا يقيم فى الكرملين، وحكام الصين كانوا يقيمون حتى وقت قريب فى "المدينة المحظورة" او المحرمة فى قلب بكين، وحكومة الهند ووزراؤها وقادتها السياسيون يقيمون فى دلهى، ولم نسمع أن حكام بريطانيا أو فرنسا سعوا للخروج من باريس أو لندن. بل إن رؤساء فرنسا يتنافسون فى وضع لمساتهم على عاصمتهم. بومبيدو شيد مركزا ثقافيا، وميتران بنى دارا للأوبرا مكان سجن الباستيل الشهير واقترح بناء هرم داخل متحف اللوفر. ونصب الألمان احتفالات كبرى عند عودة حكومتهم إلى برلين عاصمتهم التاريخية. أما نحن فنسرع الخطى للانتقال إلى عاصمة إدارية جديدة تتفوق على مانهاتن بأبراجها الشاهقة وعلى ديزنى لاند بأكبر مدينة ملاهى فى العالم.
القاهرة تتأمرك ولكن بطريقتها الخاصة، ببيروقراطيتها مضرب الأمثال فى انعدام الكفاءة، وبإدارتها التى بلغ فيها الفساد العنق، وبفهمها الساذج لقواعد العمران، وبرفضها أى مساءلة من جانب المواطنين الذين تعيش حكومتهم على ما يتيحونها لها من موارد تقوم بتبديدها.