الدور الاقتصادى لمجلس الشيوخ
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 29 أبريل 2019 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
تأسس الدستور المصرى عام 2014 على برلمان بغرفة واحدة تتولى كلا من الرقابة والتشريع فضلا عن اعتماد الموازنة العامة بالطبع. أما وقد تم استفتاء الشعب أخيرا على إضافة غرفة جديدة للبرلمان تحت مسمى مجلس الشيوخ، فإن عددا من المواد الأخرى فى الدستور (بخلاف التى عرضت للاستفتاء) ربما استوجبت التعديل فى جولة أخرى، أظن أنها ستكون جولة وضع دستور جديد للبلاد، أشار إليه الدكتور على عبدالعال رئيس مجلس النواب فى عدد من تصريحاته الأخيرة.
ولأن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فربما كان استحداث مجلس الشيوخ، على ما فى دستورنا الحالى من نقص فى المواد المنظمة لعمله، الموكلة اختصاصات محددة لتلك الغرفة البرلمانية، فرصة لتعويض ما يفتقر إليه المجال العام اليوم من مخازن للأفكار تسبق بالضرورة إقرار التشريعات الجديدة. فى مخازن الأفكار يتم دراسة الموضوعات من مختلف جوانبها بعناية متخصصة بعيدا عن صخب الصراعات السياسية ومناوشات أصحاب المصالح. فى مخازن الأفكار تكون اليد العليا للمنطق السليم المؤيد بالحجج، المدعم بالأسانيد والنظريات المجربة.
كان مجلس الشورى المصرى والمجالس القومية المتخصصة يلعبون جميعا قبل عام 2011 دور مخازن الأفكار ومراكز دعم القرار التشريعى وربما الرقابى، على نحو يسمح بالاطمئنان إلى المنتج النهائى لمجلس الشعب، الذى اتضحت أمامه الصورة لاتخاذ قراراته فى ضوء رؤى الخبراء والمتخصصين الذين امتلأت بهم قاعات تلك المجالس سواء من الأعضاء أو من المستعان بهم على اختلاف مشاربهم. وبعيدا عن التطور الذى استحدثته تعديلات دستور عام 1971 المتلاحقة والتى أعطت مجلس الشورى فى أعوامه الأخيرة اختصاصات وصلاحيات أوسع، بحيث أصبحت موافقته لازمة فى بعض الموضوعات، فإن مجلس الشيوخ اليوم لن يكون بمقدوره انتزاع صلاحيات مماثلة فى ظل دستور عام 2014 بشكله القائم، ولذا فإن شيئا من التنازل الطوعى لبعض مؤسسات الدولة عن جانب من اختصاصاتها لصالح مجلس الشيوخ المستحدث سوف يكون ضروريا خلال العقد المتبقى من عمر هذا الدستور، إذا أريد لهذا المجلس أن يكون فاعلا وأن يجبر كسرا واضحا فى الهيكل النيابى الراهن.
فى جلسة الاستماع إلى آراء الاقتصاديين بخصوص التعديلات الدستورية الأخيرة والتى شرفت بحضورها (كخبير اقتصادى لا كرئيس لإحدى الشركات القابضة المملوكة للدولة) سجلت تقديرى للبادرة الديمقراطية التى أقدم عليها البرلمان المصرى ورئيسه المهذب، والذى أصر على تسجيل ترحيبه البالغ بكل نقاط الخلاف قبل نقاط الاتفاق. ولأن رأيى الذى سجلته حينها قد تناول عددا من مواد الدستور التى لا دخل لها بموضوع مقال اليوم، فسوف أقصر الإشارة إلى المواد المنشئة لمجلس الشيوخ والمنظمة لآليات عمله، والتى رأيت باختصار أن تتضمن صراحة بعض الاختصاصات الاقتصادية، وإذا كان هذا التعديل غير ممكن فى ظل المقدمات التى سبقت الإشارة إليها، فإن الحاجة إلى نص مكتوب لإقرار دور اقتصادى لمجلس الشيوخ ليست ماسة، إن كان تشكيل المجلس يغرى بأركان السلطتين التنفيذية والتشريعية إلى ضرورة الاستعانة برأيه فى مختلف المسائل التى تتعدى آثارها الأجل القصير والتبعات المباشرة التى عادة ما تتضمنها مشروعات القوانين المعروضة أمام مجلس النواب.
الثقة فى أن مخرجات المجموعة الاقتصادية بالحكومة هى أفضل بكل تأكيد من مخرجات وزارة واحدة تنظر إلى الأمور من زاوية محدودة، هى التى تجعلنا نطمئن إلى مخرجات مجلس من أصحاب الرأى والخبرات المتنوعة التى تثقل بكل تأكيد ما تفرزه المجموعة الاقتصادية وتوفر فيه أسباب الشمول والتكامل والاستدامة، خاصة فى غيبة الضغوط التى تفرضها الحقيبة الوزارية على صاحبها، والموائمات التى تتطلب أحيانا ترجيح رؤية إحدى الوزارات على سائر المجموعة. وإذا سأل سائل عن السبب فى اختصاص الملف الاقتصادى دون غيره بهذا المقال، فمدار الجواب هو إلحاح هذا الملف الذى أثبتنا فى مقالات سابقة أنه يقود السياسة ويتحكم فيها، والذى أثبتت القيادة السياسية منذ ثورة يونيو أنه يحظى بالاهتمام والأولوية فى مشروعها التنموى، لتحقيق الاستقرار المستدام واستعادة السيطرة على الأمور. ولأن هذا الملف الشائك تتفرع تشابكاته على نحو بالغ التعقيد، وتتقاطع معه ملفات قانونية واجتماعية وأمنية ومؤسسية لا حصر لها، ويتحمل فاتورته المواطن العادى بصورة يومية أشار إليها السيد الرئيس فى عدد من خطاباته الأخيرة ببالغ الإشفاق، فإن اختصاص مجلس الشيوخ به يحقق العديد من الأهداف. فهو يضمن حالة العصف الذهنى التى لابد أن تسبق القرارات الاقتصادية المهمة والمصيرية، كما يكفل توثيق تباين الآراء وتنوعها وفق آلية تسمح دائما بالتعلم من الأخطاء وعدم تكرارها، وسرعة تصحيح المسار على أسس مدروسة. وهو يلزم أعضاء السلطة التنفيذية بدعم مشروعات القوانين، واتفاقات القروض، والمشروعات العملاقة.. بدراسات متخصصة «دسمة» حتى يتسنى لها المرور من هذا المجلس بأقل قدر من التعديل أو الرفض.
الاختصاصات الاقتصادية لمجلس الشيوخ تسمح بخلق عقل حر محلق ينظر بعينين صافيتين إلى مستقبل مصر خلال العقود القادمة. رؤية مصر 2030 والرؤية التى نحن فى حاجة إليها اليوم فى 2040 تخلو بعض أركانها من محطات واضحة يتوقف عندها صانع القرار لتقييم الجهود والإنجازات. تخلو من أدوات ناجعة للمتابعة، والربط العضوى بين أجزاء القطاعات الإنتاجية فى الدولة على أساس من التكامل لا المنافسة، أو المجموع الصفرى بحيث تأتى إنجازات قطاع بعينه خصما قاسيا من منتجات قطاع آخر.
مجلس الشيوخ هو فرصة لإعادة ترتيب الأوراق، ووضع الملف الاقتصادى على مسار طويل الأجل، عابر للخلافات الوزارية، والمكاسب القطاعية، واتفاقات المؤسسات الدولية، ومقتضيات الضرورة السياسية والأمنية. الملف الاقتصادى فى هذا السياق ليس مجرد حقيبة وزارية أو حتى مجموعة من الوزارات... بل هو مدخل approach لقراءة المشهد العام بمختلف تفاصيله، ورسم رؤية التنمية الشاملة المستدامة بحروف لا تعرف التزييف أو المجاملة، وبلغة الإحصاءات والبيانات والنماذج التى لا تكذب ولا تتجمل وإن كانت تحتمل التأويل، ولهذا حديث آخر.