أنف كليوباترا ومصير نتفليكس

تامر شيخون
تامر شيخون

آخر تحديث: السبت 29 أبريل 2023 - 11:35 ص بتوقيت القاهرة

«لو كان أنف كليوباترا أقصر قليلا لتغير وجه التاريخ» وفى رواية أخرى «لتغير وجه العالم!»..

عبارة قالها عالم الرياضيات الفرنسى «بليز باسكال» فى القرن السابع عشر. لاحظ أنه فرنسى بل دَقِّق فى كونه عالم رياضيات فَذ. يُعتبر من أهم مؤسسى نظرية قوانين الاحتمالات الرياضية وأحد مخترعى الحاسوب الميكانيكى ومن رواد علم الفيزياء الهيدروستاتيكية بل له قانون باسمه!

قيل فى تأويل عبارته، أن الأنف الضخمة كانت تُعَد آية الثقة والكبرياء فى عصر كليوباترا وعليه سَحَرَت الملكة قيصر ثم أنطونيوس. إذن لو كان أنفها أقصر قليلا لما خسرت الجمهورية الرومانية معركتها الأخيرة ولما قامت بدلا منها الإمبراطورية الرومانية التى فَنَت بعد خمسة قرون من انتحار الملكة رِفْقَة حبيبها الخاسر.

بغض النظر عن نظرية احتمالات باسكال التاريخية، فالشاهد أن ملامح كليوباتر السابعة راسخة فى الوعى الغربى قبل الشرقى. وهو ما يؤكده عدد من العملات المصكوكة والتماثيل والمنحوتات الأثرية لوجه وجسد كليوباترا السابعة. بعض تلك التماثيل محفوظ فى متاحف برلين وسان بيترس بيرج وتورنتو.

يعد شكل الأنف عند علماء الأنثروبولجى أحد أهم الملامح الشكلية المستخدمة فى تعقب الأصول العرقية «طبعا بالإضافة للمنهج الأصلى فى تحليل الدى إن إيه أو الشفرة الوراثية».

كانت أنف كليوباترا حسب المنحوتات الأثرية أنفا رومانيا بامتياز.

ضخم، مقوس على عكس الأنف اليونانى المستقيم إذ لم تكن كليوباترا أيقونة للجمال الباهر مثل أفروديت بل كانت رمزا للجاذبية الساحرة.

عندما جسدتها هوليوود مستعينة بقطتها الأشهر «إليزابيث تيلور» عام 1963، أبهرت جمهور هوليوود عبر العالم، لكنها لم تبهر عامة اليونانيين فلم يروا فى «ليز» سوى وجه جميل وجسد هوليوديا مُغْرِيا حسب المواصفات الأمريكية لكنه لا يعكس روح الجمال البطلمى الملكى. إذ كان بالإمكان تجسيده بدقة أكثر وبراعة أكبر من خلال نجمة يونانية مثل «إيرين باباس» التى تألقت فى تمثيل العديد من الأساطير الأغريقية على المسرح وشاشة السينما مثل دورها الخالد «الكترا».

أما فى مصر، فقد مُنِعَ الفيلم من العرض اعتراضا على مواقف ليز الداعمة للصهيونية.

فجر التريلر الذى عرضته نتفليكس مُعْلِنَة عن فيلمها الجديد «كليوباترا» ثورة غضب عارمة فى مصر بعدما شاهد المصريون ملكتهم، تجسدها هذه المرة الممثلة البريطانية السمراء «أديل جيمس» فى تماهى مع تصاعد تيار «الأفروسينتريزم».

الأخطر، أنه وصف الفيلم «بالوثائقى». سابقة خطيرة تجاهر من خلالها المنصة خصوصا أو الميديا الغربية عموما بالتشويه العمدى المباشر لحقائق التاريخ بعيدا عن أى سياقات درامية أو ذرائع الخيال الفنى!

هذا الطرح يضرب عصفورين بحجر إذ يخدم أجندة الصوابية السياسية من ناحية وينافق تيار الأفروسينتريزم المتنامى من ناحية أخرى كما يحقق الصدمة التجارية المطلوبة للترويج للمحتوى.

الغضب الجماهيرى كان متوقعا، بل مُسْتَحَقا. لكن الخطورة تكمن فى عشوائيته. من هنا لابد من الانتباه لعدة نقاط هامة:

ــ كليوباترا لم تكن ملكة مصرية. بل ملكة مقدونية حكمت مصر ضمن الحقبة البطلمية. فى رأيى «الشخصى» كان دورها فى تاريخ مصر سلبيا للغاية. الاعتراض هنا على مبدأ تشويه التاريخ بوقاحة من أجل أغراض وأجندات لا تخصنا. أى إن الحِمْيَة لأمانة سرد التاريخ، لا لعظمة الشخص!

ــ آخر ما نتمناه، استعداء الشعوب والجماعات الأفريقية داخل أو خارج القارة. الاعتراض ليس على لون البشرة الأسود فى حد ذاته. بل على تزييف الحقيقة فى المطلق. ولن يكون التزوير مقبولا إذا جسدته ممثلة ذات ملامح شقراء أوروبية أو قمحية أسياوية!

لكن للأسف، الكثير من سخريتنا عبر السوشيال ميديا انطوت على عنصرية فَجَّة سخرت من لون البشرة، بدلا من سخافة نتفليكس.

على سبيل المثال لم يكن هناك أى منطق فى مهاجمة الممثلة «أديل جيمس» على صفحتها الخاصة! كان من الأحرى توجيه رسائل النقد إلى منصة العرض أو جهة الإنتاج أو صناع العمل حتى لا يتحول الاعتراض المُسْتَحَق إلى خطاب كراهية!

ــ يتحتم علينا التكرار والتأكيد على احتفائنا بالعنصر الأفريقى فى ثقافتنا واعتزازنا بكامل الإرث والتاريخ والثقافة النوبية كمُكَون أصيل فى تراثنا المصرى. على افتخارنا بالأسرة الحاكمة النوبية الخامسة والعشرين التى حكمت مصر ضمن سلسلة الأسر الملكية الثلاثين.

كل ما سبق لا يعنى الموافقة على ادعاءات «الأفروسينتريزم» الكذوبة. مناصرتنا لحقوق السود فى العالم واعتزازنا بقارتنا الأفريقية وإرثها العريق لن ندفع ثمنه بطمس تاريخ أجدادنا!

ــ الإثنية لا تعنى القومية. ولا تعنى الثقافة بالتبعية. بل هى مكون واحد من عدة مكونات تنصهر جميعا فى مزيج الثقافة الواسع. مثلها مثل الدين واللغة والمعرفة والفنون والقيم. حتى لو افترضنا «جدلا» أن ثمة تطابقا جينيا تاما بيننا وبين إخواننا فى القارة. لا يعنى ذلك أن الأقوام أو الشعوب التى عاشت عند مصب نهر النيل، هى نفسها القبائل التى عاشت فى غرب وشرق وجنوب القارة. كل قومية أسست تاريخها الخاص الإنسانى حسب الظرف المكانى والتاريخى الذى عايشته وتفاعلت معه ثم استمرت فى التطور عبر الأجيال والحقب الزمنية. وإلا يتوجب علينا نسب جميع حضارات العالم أجمع للشعب الأفريقى بما أن الإنسان العاقل الأقدم فى التاريخ أتى من أفريقيا حسب الأبحاث العلمية الموثقة!

ــ كيف لنا التعامل مع نتفليكس؟

عدد مشتركى نتفليكس فى العالم وصل 230 مليون مشترك. 65% منهم يعيش فى قارتى أمريكا وأوروبا. عدد المشتركين فى الوطن العربى أجمع لا يتجاوز الـ700 ألف مشترك أى نسبة 3 من الألف%!

إذن سلاح المقاطعة هو مجرد سلاح رمزى غير مؤثر.

نحتاج إلى استغلال الشخصيات العامة المصرية التى تحظى بشهرة وثقة الجمهور الغربى عموما فى التواصل مع الميديا الغربية لإيصال وجهة نظرنا بهدوء وموضوعية.

التحرك الرسمى من أجل الضغط على جهات الإنتاج قد يساهم أيضا فى التغيير. فكم من منصة أو جهة انتاج بما فيها البى بى سى تراجعت عن عرض أعمال سببت أزمات دبلوماسية بعد اعتراض حكومات الدول المتضررة عليها رسميا.

ــ لكن المدخل الإيجابى على المدى البعيد. هو سرد حكايتنا بلساننا وخيالنا!

لا يطرد الفكرة المتهافتة سوى فكرة ناضجة.

و لا يطمس العمل الردىء سوى الفن البديع.

آن الآون أن يكون لدينا مشروعنا القومى لعرض تاريخنا العريق الطويل للإنسانية عبر السينما والدراما المصرية. فلدينا رصيد من الأدب والإبداع يؤهلنا لذلك شريطة أن نقدم تلك الأعمال بلغتنا المنفردة وحسنا الخاص، لا بتقنيات هوليوود.

أن يكون الإبداع الفنى الحر هو المهيمن على تلك الأعمال وليست البروباجندا الصارخة!

أن نلمس الوتر الإنسانى دون التشنج بشعارات إنشائية.

أحيلكم إلى رائعة شادى عبدالسلام «المومياء» أو «المهاجر» ليوسف شاهين كمثالين ملهمين لتلك الطاقة الإبداعية القادرة على التحليق برسالتنا بعيدا رغم أنف الأجندات والمنصات!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved