القارعة والطوارئ
إبراهيم يسري
آخر تحديث:
السبت 29 مايو 2010 - 10:07 ص
بتوقيت القاهرة
سمحت لنفسى أن أستعير هذا الوصف من القرآن الكريم لأصف به أزمة المياه والوضع الراهن فى مصر ومدى تكالب الدول وأخصها ما يصنفه النظام من الأصدقاء على إخراجنا من الجغرافيا بعد أن كادوا يطوون صحائفنا فى التاريخ، وكلنا يدرك بلا مواربة أن مصر قد اقتربت فى العقود الأخيرة من جمهوريات الموز فى تقبلها لإملاءات وخدع أمريكا، وأنها تتعاون بكل إخلاص مع إسرائيل على تصفية القضية الفلسطينية والخروج من العالم العربى والإسلامى وأفريقيا ودول عدم الانحياز.
بل لقد تقاعسنا عن اجتماعات تنسيق المواقف مع دول أمريكا اللاتينية مجاملة للعم سام. وآخر ما تراءى للنظام هو تكريس انفصاله جغرافيا عن المشرق العربى ببناء الجدار العازل بيننا وبين شعبنا فى غزة وتحالفنا الوثيق مع محمود عباس صوت أمريكا وصنو إسرائيل.
وبينما تصب هذه المواقف فى رصيد سلبياتنا وتكرس ضعفنا واستسلامنا، فالوضع الداخلى وصل إلى أسوأ أحواله واقترب كثيرا من مرحلة التشرذم واضطهاد المواطن وكبت حريته وانتهاك حقوقه كإنسان التى سادت فى عهد المماليك دون أن تحظى بلحظات المجد والانتصار التى تخللتها.
والآن أصل إلى القارعة أو الفاجعة أو المأساة التى تريد أن تحول مصر إلى صحراء قاحلة تختفى فيها الخضرة والزرع والحرث، وربما غطت الرمال أهرامات الجيزة وبذلك تنتهى مصر العظيمة مهد الحضارة والعطاء لتفسح المجال لقوى البغى والعدوان على أمتنا وعقيدتنا وهويتها. لقد واجهت مصر الغزوات والنكبات والهزائم ولكن رأسها كان دائما مرفوعا فعندما وقع محمد على اتفاقية 1830 مع أوروبا كان التفاوض بين الأنداد فى إطار توازن للقوى وكانت مصر قوية مرفوعة الرأس، وعندما هزمنا فى 1967 رفض الشعب الهزيمة ولم ينجح عدوان 1956 ولا هزيمتنا فى 5 يونيو فى كسر إرادتنا.
كانت مصر واعية لخطورة أعدائها لا تتجمل ولا تخفى الحقائق ولا تغرق فى أحلام اللامبالاة كما نشهد اليوم فى أزمة مياه النيل التى بدأ أصدقاؤنا فى واشنطن وتل أبيب وبعض العواصم الأوروبية الإعداد لها منذ أكثر من عشر سنوات التى تجسدت فى تحريض أشقائنا فى أفريقيا على خيانة العهد وإنكار الفضل والانضواء تحت توجهات تعطيش مصر باستخدام الرشَى والإغراء بمشروعات وهمية للتنمية.
الكارثة خطيرة والأزمة سياسية فى المقام الأول تتمثل فى صراع دولى للقوى ولذلك لا يمكن تبسيطها بالاستناد إلى تصريحات رومانسية من وزير الرى الجديد وفريق العاملين فى الموضوع الذين لم تتضح لديهم بصورة كافية جدية وخطورة التهديد الذى تتعرض له مصر فى وجودها ذاته فالمعركة إذن هى معركة ودود وليست معركة سدود.
التعامل مع النظام فى ظل الأزمة
وهنا أصل إلى طرح مناقشة بين كل القوى السياسية للنظر فى موقفها من النظام الذى أعلن الطوارئ وانتهك الدستور والقانون، للتوصل إلى حسم مسألة فى غاية الدقة والحساسية، وهى هل نؤجل خلافاتنا مع النظام لنقف وراءه بالتأييد والدعم فى الداخل حتى يتاح له التعامل القوى والفعال مع الأزمة ولكى نفوت على أثيوبيا ما توخته من توقيت إعلان المبادرة فى الوقت الذى يعانى فيه النظام من الضعف والتفكك؟ السؤال مهم وأعتقد أننا إذا رأينا تعاملا جادا وقويا وفعالا من النظام فيمكن دراسة تأجيل خلافاتنا إلى ما بعد انفراج الأزمة، فإن لم ينجح فعلينا أن نواصل العمل على التغيير لكى نحافظ على وجودنا.
وأحب فى البداية أن أحذر ـ رغم خبرتى فى القانون ـ من دعاوى الاستناد لاتفاقية 1929 أو اللجوء للتحكيم كما اقترح بعض الفصحاء، الموضوع يتمثل فى صراع للقوى ولابد أن تواجهه مصر بكل ما لديها من أوراق القوة، وأستبعد هنا الاتجاه التخاذلى باستخدام ما يسمى بالقوة الناعمة، فعندما تواجه ضغوطا تمس مصيرك ووجودك لابد أن تستعين بأدوات الصراع المعروفة فى العلاقات الدولية، يقف فيها رادع القوة مساندا للمفاوض لأن المفاوض الذى يجلس لطاولة المفاوضات دون ظهير أو بعض أنواع الضغط والردع سيخسر بالضرورة.
وإذا كان هدفنا هو حماية حصتنا فى مياه النيل من خلال علاقات أفريقية صحية وتعاون وثيق فى التنمية دون جلد للذات أو البكاء على اللبن المسكوب ففى تصورى الشخصى، وقد أخطئ فى بعض الأفكار، أنه يمكن التعامل مع هذه الكارثة وفق خطة ترتكز على عدة محاور:
أولا: رؤية واقعية جديدة
ويعنى هذا ضرورة إعفاء كل أعضاء الفريق الذى عهد إليه التعامل مع الأزمة فى السابق، واختيار فريق جديد تماما برؤية جديدة من الاستراتيجيين والسياسيين والخبراء بعيدا عن الفكر البيروقراطى التقليدى وبعيدا عن روح الاستسلام وعدم المبالاة والتهوين من آثار هذا العدوان السافر. ولابد أن يكون للاستراتيجيين وضع متقدم فى هذا الفريق كما يمتنع الخبراء عن الخوض فى القضايا السياسية والاستراتيجية.
ثانيا: التحرك الدبلوماسى فى المجال العربى:
ضرورة تعزيز علاقتنا بالسودان ومساندته مساندة جادة فاعلة بالدعم اللوجستى والأسلحة فى دارفور والجنوب.
العمل الدءوب على تعزيز محور ليبيا مصر السودان فى التعامل مع الأزمة للاستفادة بصلات ليبيا الأفريقية وتحسبا لإسهاماتها فى استثمارات تنموية فى دول المنبع.
إيفاد مبعوث خاص يحمل رسائل من السيد الرئيس إلى عواصم دول الخليج لبيان خطورة التوسع فى مشروعات استغلال مياه أفريقيا فى الزراعة إذا هددت حصة مصر، وحث صناديق التنمية العربية على المساهمة فى مشروعات التنمية الأفريقية بعيدا عن مياه النيل.
ثالثا: التحرك الدبلوماسى فى دول المنبع
إيفاد مبعوث على مستوى (بطرس غالى) برسائل من السيد الرئيس إلى الرئيس السودانى ورؤساء دول المنبع الموقعة على الاتفاقية التى لم توقع منتهيا بزيارة أسمرة، وعدد من الدول الأفريقية (جنوب أفريقيا ـ نيجيريا) مفادها الحرص على علاقات الصداقة والمساعدة فى مشروعات عملاقة للتنمية والاستثمار وخطورة المساس بحصة مصر مع إيماءات بالتصميم على اتخاذ ما يلزم لحماية مياهنا وخيارات مفتوحة للتصرف. وعلينا أن نشجع الدولتين اللتين لم توقعا ونكثف التعاون معها وتبادل الوفود تمهيدا لانضمام عدد من الدول الأخرى بغية عزل أثيوبيا وتنزانيا.
رابعا: التحرك الدولى
يتطلب الأمر عدم التردد فى توجيه رسالة تحذير مرنة وجادة إلى كل من أمريكا وإسرائيل وربط موقفهما بموقف مصر من المساعدة فى تسوية النزاع الفلسطينى الإسرائيلى، وتنشيط علاقاتها بمحور إيران تركيا سوريا.
تمتد زيارة مبعوث الرئيس إلى الصين وإيطاليا والدول الضالعة فى مشروعات المياه فى تلك الدول للتعبير عن القلق الشديد والحرص على عدم المساس بحصتنا.زيارة وزير المالية لرئاسة البنك الدولى للتحذير من تمويل مشروعات دون موافقة مصر، مع تشجيعنا لكل مشروعات التنمية.
عدم التعامل مع دول المنبع مجتمعة والاكتفاء بالاتصالات الثنائية لكسب تأييد البعض منهم.إعداد صيغة متكاملة للتعامل مع أثيوبيا باعتبارها المحرض الرئيسى تتراوح بين التسوية والردع. توثيق العلاقات مع أريتريا ودعوة رئيس إريتريا لزيارة القاهرة، وتوقيع اتفاقيات موسعة للتعاون فى مجالات الاستثمار والمعونة واتفاقية صداقة تتضمن المساعدة فى مجال الأمن وتدريبات مشتركة للقوات فى مصر وأريتريا.
خامسا: حملة إعلامية مكثفة ومنسقة وموجهة تبين خطورة هذا التوجه وتركز على اعتبارات الصداقة الأفريقية دون التهديد المباشر بالردع إلا فى شكل تسريبات من مصادر غير حكومية.