في بيت العيد
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 29 مايو 2019 - 10:25 م
بتوقيت القاهرة
تزدحم شوارع المدن فى العشرة أيام الأخيرة من رمضان، تمتلئ سماؤها بالأنوار ويعلو صراخ باعتها فى الشوارع. تمسك الأمهات بحزم بأيادى الأولاد تسحبهم مبتعدين عن ألعاب فرشها الباعة على طاولات فى الشارع. فى القلوب ترقب لما سوف يحدث بعد أيام وفى العقول عمليات حسابية معقدة تحاول أن تحل أحجية موسمية: كيف نلبى نداء الأولاد فنحتفل معهم بشراء ألعاب يريدونها وثياب جديدة يريدها الأهل؟ لا يأبه الأطفال كثيرا للثياب الجديدة، فكل همهم هو ركوب المرجوحة وشراء ألعاب سرعان ما سوف تلحق بسابقاتها فى سلة فى غرفة النوم، إنما يصر الأولاد أن شرط العيد شرط هو دمية أو حصان بلاستيكى.
***
فى الحقيقة لا أعرف ما يدور فى عقول الأولاد عشية العيد، إنما أتخيل أن أمنياتهم لا تتغير على مدى الأجيال، كما لا تتغير الطريقة التى تشد بها الأم على يد طفلها فى السوق المكتظة، ولا يخف توتر الأب من مشوار السوق قبل العيد، فهو مشوار سوف يدفع ثمنه لأسابيع من بعده.
***
ترتدى السماء حلة مختلفة عندما يشارف شهر رمضان على الانتهاء، فيتهيأ لى أن نجومها تسطع بشكل أوضح وأننى لو مددت يدى فسوف ألتقط نجمة أهديها إلى ابنتى. خذى هذه النجمة التى أسميتها على اسمك. احتفظى بها تحت المخدة فهى تؤنس ليلتك وتهمس فى أذنك حكاية ما قبل النوم. قصة فتاة لم تنم فى الأسبوع الأخير قبل العيد بانتظار اجتماع العائلة فى البيت الكبير، وصوت حفيف النقود الورقية فى جيب العم قبل أن يعطيها العيدية. طبعا مصير العيدية معروف: سوف تحتفظ بها أمها إلى حين أن تطلبها البنت، أو هكذا تعد الأم ابنتها، بينما تمضى الأخيرة شهورا تعدد فيها مشتروات تتخيل أن تغطيها بالمبلغ.
***
فى العيد جدة تجلس على كرسى وسط صالة الاستقبال، تراقب بزهو مملكتها من أبناء وبنات وأحفاد وحفيدات، قل كلامها وكثر تأملها. حياتها مفرودة أمامها حول طبق المعمول، جيلان على الأقل أثرت فى حياتهما على مدى عقود. تغيرت مع الزمن ورضيت بالتغيير حتى أن ملامحها ارتخت ومسحت شبه ابتسامة وجهها. ما زالت تستغرب حين تعود بالزمن إلى الوراء فتتذكر أمورا توقفت عندها وغضبت، وتتمنى لو كانت أخذت الأمور بخفة ربما كانت جنبتها ساعات التوتر من الموقف.
***
كل ذلك لا يهم، فمملكتها حولها وقد تعطرت من زجاجة عطر قديمة وحيدة على طاولة صغيرة قرب السرير فى غرفتها، وكحلت عينيها بالكحل العربى، آخر علامة للتبرج ما زالت تسمح بها لنفسها فى الأعياد فقط. يتحرك العالم من حولها وتستقبل ابنتها زوارا من العائلة والجيران، تقدم لهم القهوة والحلويات وتأخذ إشارة من عينى الجدة تماما كما كانت تفعل حين كانت الجدة أما شابة وكانت الابنة طفلة.
***
لغة العيون بين الأم والبنات هو شيفرة سرية فى كل بيت. تلتقط الابنة الأمر والنهى من رفة جفن فتهرع إلى تلبية طلب الأم أو تستنكر بصمت هى الأخرى مرسلة إلى أمها نظرة تعرف الأم أنها سوف تؤدى إلى شجار بعد رحيل الضيوف. لغة العيون، كما كل اللغات، تغيرت قليلا مع السنوات، أو ربما تغيرت الأدوار فباتت الابنة ترسل بنظرة مستنكرة إلى أمها حين تريد أن تعترض دون أن تظهر ذلك، وتلمع عينا الأم فى شبه اعتراف أنها سمحت لنفسها بحكم سنها، أن تتصرف بشكل ربما لا يواكب العصر.
***
فى العيد كثير من الأحاديث الجانبية، همسات تتبادلها قريبتان لا تلتقيان سوى فى العيد فى البيت الكبير، ترميهما الجدة بنظرة نصف مستفهمة ونصف مهددة، إذ إنها طبعا تريد أن تفهم ما يحدث حولها دون أن تبدى اهتماما زائدا. تكمل القريبتان الحديث وقد تنضم إليهما أخريات، فيبتعدن عن الجدة ليشاركن بالحديث الجانبى. دقائق ويدخل ضيوف جدد فتعدل القريبات من جلستهن علهن يخفين حديثهن الجانبى.
***
بيت الجدة هو بيت العيد، حتى لو رحلت الجدة ورحل البيت. فى المخيلة العائلية مكان خاص لبيت كبر فيها أولاد العائلة وأحفادها حول طبق من المعمول أعدته الجدة فى الأيام الأخيرة فى رمضان. بيت العيد موضوع حديث كل موسم، وصندق سحرى فيه أفراح وذكريات يخرجها الأحفاد حين يصبحوا بدورهم آباء وأمهات.
***
فى العيد يعلو صوت الأولاد ووقع أقدامهم على بلاط البيت المزركش، إذ يحاول كل طفل أن يتبختر بحذائه الجديد عل ذلك يعطيه أهمية أكبر فى عيون الأولاد الآخرين. يمضى النهار بين أحاديث جانبية وجماعية بينما تراقب الجدة الممكلة من حولها دون أن تتحرك كثيرا من مكان جلوسها. أظن أن لا عيد كما عيد البيت الكبير، بيت الجدة، وأن الإنسان مهما سافر وجاب العالم، فلا غربة كتلك التى تجتاح القلب بعيدا عن نظرات الجدة يوم العيد، حيث يعود الجميع أطفالا صغارا بانتظار صوت النقود الورقية فى جيوب الكبار، فتلمع العيون وتضحك الوجوه مع كلمة كل سنة وأنتم سالمون.