المغرب ــ تونس: الشباب المتروك فى القــــــاع
صحافة عربية
آخر تحديث:
الجمعة 29 مايو 2020 - 6:35 م
بتوقيت القاهرة
نشرت جريدة المغرب التونسية مقالا للكاتبة «آمال قرامى»، تناولت فيه حادثة وفاة شباب تونسيين بسبب تناول بعض الأقراص وهى ظاهرة منتشرة فى العديد من الدول، وأيا كان دوافع هؤلاء الشباب فقد ربطت ذلك بالسياسة وفشل السياسيين فى إيجاد حل حقيقى لمشاكل المواطنين وتقاعسهم عن أداء واجبهم... جاء فيه ما يلى:
حادثة الشبان الذين لقوا حتفهم بسبب تناول جرعات ــ لا من الخمر بل ــ من «القوارص» فى «قعدات الزنبريط» فى بلاد شمل فيها الفساد كل مظاهر الحياة، أثارت الصدمة والشفقة لدى شق من التونسيين، والاستياء والشماتة لدى شق من الأخلاقويين الذين استفزهم «شرب الخمر» فى أول يوم العيد ولم تتحرك مشاعرهم لرؤية الشباب البائس الذى فقد الأمل فى الحياة والذى عاش على الهامش يبحث عن مسكنات. ولكن هل تكفى ردود الفعل الانطباعية والمغرقة فى الانفعالية لمواجهة الواقع المر؟
لنترك جانبا أحكام الحلال والحرام، والمحمود والمرذول، والشرعى وغير الشرعى، والمرخص والموازى... ولنتأمل فى جذور المشكلة التى تتجاوز تقييم سلوك بعض الأفراد إلى التساؤل عن هوية هؤلاء وعن موقعهم فى المجتمع وفى سياسات الدولة؟ فمن هى هذه الفئة من الشباب التونسى، والمحسوبة على جيل ما بعد الثورة؟
إنهم المغيبون فى الخطاب السياسى والمهمشون فى سياسات الحكومات المتعاقبة، وغير المرئيين فى تدخلات نواب الشعب وحساباتهم الضيقة. وهم المنسيون غالبا، فى الخطاب الإعلامى والثقافى والأكاديمى لأنهم ببساطة لا يمثلون «أولاد مفيدة» ولا «الشباب السلفى الجهادى» ولا «الحراقة» ولا محترفى الإجرام والتهريب... إنهم على ما يبدو، غير المسيسين وغير المتحزبين وغير المؤدلجين وغير الانتهازيين... إنهم ببساطة المتروكون فى الخلف: خلف الصفوف التى يحتلها شباب انضم إلى حزب قوى فكان مشمولا بالرعاية والتكوين ومستفيدا من الامتيازات (شباب حزب النهضة) أو خلف الفئة التى أفادت من «تدخلات» القريب والبعيد فكانت محظوظة أو خلف الشباب الذى انخرط فى مسار تعليمى أو فى الجمعيات فكان محصنا إلى حد ما، من الوقوع فى هذه الانحرافات... والحديث عن التموقع الإجبارى والمفروض: فى الخلف يجرنا بالضرورة إلى الانتباه إلى مختلف السياقات (الاقتصادى والسياسى والاجتماعى...) التى جعلت هذه الفئة من الشباب سجينة هذا الموقع الخلفى تعانى «الحقرة» وخاضعة لتراتبية معبرة عن سياسات الفرز القاتلة.
وليس بوسعنا التمحيص فى أسباب الإقبال على تناول «القوارص»: فقر، جهل، ضياع، مشاكل نفسية، هروب، بحث عن وجه من وجوه التسلية برفقة الأصحاب، رغبة فى استبدال واقع مرير بما يشبه واقعا يتماهى فيه من لا يملك ثمن قارورة خمر مع من يملك ويتباهى بصورته وهو يحتسى الخمر المعتقة فى أبهى الكؤوس، حرص على امتلاك سلطة ما، دخلته فكرة أن استهلاك الكحول ينسجم مع السلوك الذكورى...غاية ما فى إمكاننا فعله هو لفت النظر إلى أن لجوء فئة من الشبان إلى بدائل للخمر أو المخدرات المصنعة بطرق عشوائية يتفشى فى إيران وغيرها من البلدان التى لا تكترث بمشاكل الشباب، وحيث لا تمثل أرواح الضحايا إلا رقما أو حدثا يذكر فى بعض وسائل الإعلام أو مناسبة للشتم والإدانة. إنها مجتمعات تمييزية عجزت عن تحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة مشاكلها الاجتماعية وأزماتها بكل جرأة. وبما أن كل الظواهر ذات صلة بالسياسة ورسم السياسات فإن إفلاس النخب السياسية والنخب الثقافية والنخب الإعلامية وعجزها عن إيجاد مشروع حقيقى وتأدية واجبها على أفضل وجه قد أفضى إلى استشراء عدة ظواهر: الانتحار والهجرة غير النظامية والجريمة المنظمة والاغتصاب والعنف المنزلى والتحرش الجماعى... وهى كلها تدور فى نفس الدائرة.
لا أحد يتحدث عن الحق فى السلامة والصحة النفسية، لا أحد يتحدث عن كرامة المواطن حيا وميتا، لا أحد معنى بإنقاذ هذه الفئة من الشباب الذين فقدوا الثقة فى النفس وفى الآخرين بسبب عمق الفجوات الاجتماعية، والطبقية والجيلية، لا أحد يكترث بمن تركوا خلفنا بسبب طرق التنشئة التقليدية والعلاقات الأسرية والاجتماعية غير السوية، وهيمنة الأنظمة السياسية الفاشلة والمناويل الاقتصادية الشرسة، والفردانية القاتلة، والسياسات التعليمية المفلسة...
ولأننا سرعان ما ننسى ونمر إلى الحدث الموالى فإن ما يبقى فى الذهن، وإلى حد الساعة: صورة ضريح تتجاور مع صورة جدران بيت بائس وتعليقات فايسبوكيين تفضح الخواء الروحى وتعرى واقعا انعدمت فيه القيم الإنسانية وغاب فيه الضمير فكانت الصفاقة.