مخاطر ضعف الهُويتين الوطنية والعربية
العالم يفكر
آخر تحديث:
الثلاثاء 29 يونيو 2021 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
نشر مركز الحوار العربى بواشنطن مقالا للكاتب صبحى غندور يتناول فيه ضعف الهوية الوطنية الجامعة وعدم قدرة المجتمعات العربية على فهم العلاقة بين الهويات المتعددة داخلها أو التعايش معها... نعرض منه ما يلى.
العرب هم الآن فى حالٍ من الفوضى والعبث والصراعات، حتى على مستوى الشارع، وليس فقط على مستوى الحكومات. فالمزيج القائم الآن من الاحتلال واستباحة الأجانب للأرض العربية، ومن العجز الرسمى العربى (ومن التفريط أحيانا)، ومن غياب الحياة السياسية السليمة، ومن فوضى الصراعات العربية فى أكثر من مكان، لا يمكن له أن ينتج آمالا بمستقبلٍ عربى أفضل، بل إنّ هذا المزيج هو الوصفة الإسرائيلية لتفتيت المنطقة العربية على أساسٍ عنصرى وطائفى ومذهبى تبعا لتخطيطٍ إسرائيلى بدأ فى لبنان وحاول إنجاز هدفه فيه عام 1982 فى ظلّ ظروفٍ لبنانية شبيهة بتلك القائمة الآن على المستوى العربى العام!.
ولعلّ أبرز المراجعات المطلوبة عربيا فى هذه المرحلة هى مسألة ضعف الهوية الوطنية الجامعة، وغلبة الانتماءات الفئوية الأخرى. ففى هذه الظاهرة السائدة حاليا فى أكثر من بلد عربى خلاصة لما هو قائم من مزيج سلبيات أخرى عديدة.
إنَّ ضعف الهوية الوطنية لصالح هيمنة انتماءات ضيّقة يعنى ضعفا فى البناء الدستورى والسياسى الداخلى. ويعنى تسليما من «المواطن» بأنَّ «الوطن» ليس لكلِّ المواطنين/ات وأنه ساحة صراع على مغانم فيه، لذلك يأخذ الانتماء إلى طائفة أو مذهب أو قبيلة بُعدا أكثر حصانة وقوة من الانتماء الوطنى الواحد، كما يصبح الانتماء الفئوى مركبة سياسية يتمّ استخدامها للحفاظ على مكاسب سياسية أو شخصية.
كذلك فإنّ ضعف الهوية الوطنية قد يكون هو المدخل للتدخّل الخارجى، بل وللاحتلال أحيانا، حيث تتحوّل أولوية الانتماءات الضيّقة إلى مبرّرات تقتضى التعامل مع أى جهة خارجية من أجل مواجهة الانتماءات الأخرى فى الوطن الواحد!.
إنّ ضعف الهوية الوطنية المشتركة هو تعبير أيضا عن فهم خاطئ للانتماءات الأخرى. فالاعتقاد بمذاهب دينية مختلفة، أو الاعتزاز بأصول اثنية أو قبلية، هو ظاهرة طبيعية وصحّية فى مجتمعات تقوم على التعدّدية. لكن تحوّل هذا الاختلاف إلى خلاف سياسى عنفى وصراعات دموية يعنى تناقضا مع الحكمة فى الاختلاف والتعدّد، فيكون المعيار هو محاسبة الآخرين على ما وُلدوا به وعليه، وليس على أعمالهم وأفكارهم.
وهكذا تكون مسئولية تصحيح الأوضاع القائمة الآن فى المنطقة العربية، مسئولية شاملة معنى بها الحاكم والمحكوم معا. لكن الإصلاح يجب أن يبدأ أولا فى البنى الدستورية والسياسية ليجد كل مواطن/ة حقّه فى الانتماء الوطنى المشترك. هى أيضا مسئولية مؤسسات المجتمع المدنى والحركات الفكرية والسياسية وعلماء الدين ووسائل الإعلام العربية المتنوعة، فى التعامل الوطنى السليم مع الأحداث والتطورات، وفى طرح الفكر الدينى والسياسى الجامع بين الناس.
أيضا، فإنّ تعزيز الهوية الوطنية يتطلّب إعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربى الشامل. صحيحٌ أنَّ تحقيق أوضاع دستورية سليمة فى كلّ بلد عربى سيكون مهمّا الآن لبناء علاقات عربية أفضل، لكن المشكلة أيضا هى فى ضعف الهوية العربية المشتركة وطغيان التسميات الطائفية والمذهبية والعرقية على المجتمعات العربية. وبهذا تصبح العروبة حلا لأزمة العلاقات بين البلدان العربية وسياجا ثقافيا واجتماعيا لحماية الوحدات الوطنية فى كلِّ بلدٍ عربى ولمواجهة مخاطر الانفجار الداخلى فى كل بلد عربى.
فمشكلتنا نحن العرب أنّنا نعانى من صراعاتٍ بين هُويّاتٍ مختلفة، ومن عدم وضوح أو فهم للعلاقة بين هذه الهويّات المتعدّدة أصلا. فهويّة شعوب البلدان العربية هى مزيجٌ مركّب من هويّة (قانونية وطنية) نتجت عن ولادة الأوطان العربية فى مطلع القرن العشرين، وهويّة (ثقافية عربية) عمرها من عمر اللغة العربية، وهويّة (حضارية دينية) مرجعها ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم، وأيضا بحكم أنّ الأرض العربية هى مهبط كلّ الرسل والرسالات السماوية. وهذا واقع حال ملزِم لكل شعوب البلدان العربية، بغضّ النظر عن أصولهم أو معتقداتهم، وحتّى لو رفضوا فكريا الانتماء لكلّ هذه الهويّات أو بعضها.
الآن نجد على امتداد الأرض العربية محاولاتٍ مختلفة الأوجه لتشويه معنى الهويّة العربية ولجعلها حالة متناقضة مع التنوّع الاثنى والدينى الذى تقوم عليه الأرض العربية منذ قرونٍ عديدة.
وأصبح الحديث عن مشكلة «الأقلّيات» يطرح «حلولا» انفصالية كالتى حدثت فى جنوب السودان وفى شمال العراق، وكالتى يتمّ الآن الحديث عنها لمستقبل عدّة بلدانٍ عربية، بينما أساس مشكلة غياب «حقوق بعض المواطنين» هو غياب الفهم الصحيح والممارسة السليمة لمفهوم «المواطنة»، وليس قضية «الهويّة».
المؤلم فى واقع الحال العربى أنّ الأمَّة الواحدة تتنازع الآن فيها «هويّات» مختلفة على حساب الهويّة العربية المشتركة. بعض هذه الهويات «إقليمى» أو «طائفى»، وبعضها الآخر «أممى دينى أو عولمى»، كأنَّ المقصود هو أن تنزع هذه الأمَّة هُويّتها الحقيقية ولا يهمّ ما ترتدى من بعدها، من مقاييس أصغر أو أكبر فى «الهُويّات»، فالمهمُّ هو نزع الهويّة العربية!
إنَّ العروبة الثقافية الجامعة بين كلِّ العرب هى حجر الزاوية المنشود لمستقبل أفضل داخل البلدان العربية وبين بعضها البعض. وحينما تضعف الهوية العربية فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تفرّخ حروبا أهلية تأكل الأخضر واليابس معا.
إنَّ العروبة المنشودة ليست دعوةً لتكرار التجارب السياسية والحزبية التى جرت بأسماء قومية فى مراحل مختلفة من القرن العشرين، بل هى عودة إلى أصالة هذه الأمّة ودورها الحضارى والثقافى الرافض للتعصّب وللعنصرية. وبلا عروبة جامعة فلن تكون هناك لا أمَّة عربية فاعلة، ولا أيضا أوطان عربية واحدة ومستقرّة.