وقف إطلاق النار.. دلالات وتصورات
حامد الجرف
آخر تحديث:
السبت 29 يونيو 2024 - 9:57 م
بتوقيت القاهرة
بعد تسعة أشهر تقريبا من القتال المتواصل والتدمير المتصل والمقاومة النشطة والباسلة والصمود الأسطورى للشعب الفلسطينى الأعزل وتمسكه بأرضه، أصدر مجلس الأمن الدولى قراره بوقف إطلاق النار فى غزة، بناء على مقترح أمريكى، حاز - بالطبع - على موافقة 14 عضوًا وامتنعت روسيا عن التصويت عليه، ووافقت الجزائر رغم مأخذها على صياغته، وقبلته حماس من بعد.
وإذ لا يحق لأحد أن يزايد على أصحاب القضية ولا على معاناة أهلنا فى غزة، وبغض النظر عن المعايب المتوقعة فى صياغة القرار فإنه يلزمنا أن نتوقف عند دلالاته، وأهم ما نراه من تصورات لاحقة عليه. قبل الدلالات والتصورات، ثمة سياق أتى القرار تاليًا عليه يلزمنا أن نستعيده. ويتمثل ذلك السياق، فيما سبقه من ارتكاب إسرائيل بمساعدة أمريكية كاملة لمذبحة النصيرات لإطلاق سراح أربعة محتجزين، ورغم نجاحهم فى مهمتهم إلا أنها أسفرت عن قتل ثلاثة محتجزين آخرين فضلًا عن استشهاد ما يزيد على مائتين وسبعين فلسطينى، الأمر الذى يشكل فشلًا عملياتيًا بكل المقاييس العسكرية، ولكنه هُندس وسُوّق باعتباره نصرًا إسرائيليًا مؤزرًا.
ثم جاء القرار محمولًا على مقترح أمريكى جاء فى التوقيت الذى أرادته أمريكا إذ تريد وقف الحرب فى توقيت سابق على موسم الحج وبعيدًا عن موعد الانتخابات الأمريكية لتتمكن من التعامل مع تأثيرات الرأى العام المناصر للشعب الفلسطينى فى الجامعات والتعامل مع قرارات محكمة العدل والجنائية الدوليتين واعتراف 3 دول أوروبية بدولة فلسطين، قبل أن ينفرط العقد ويخرج الأمر من يدها، فكانت مشاركتها بحصان طروادة (قوافل الإغاثة) فى عملية غزو مخيم النصيرات واستعادة أربعة محتجزين هامة وضرورية لهم ليتمكنوا من إنهاء الحرب بصيغة «هزيمة بطعم النصر» كما سبق لكيسنجر أن عمل على إنهاء حرب أكتوبر 73 بصيغة «نصر بطعم الهزيمة» بعد أن كشفت الأقمار الصناعية فجوات ما بين الجيوش المصرية ودفعهم لشارون فى معركة تلفزيونية للسويس ليكون النصر بطعم الهزيمة ولتحسين موقف الجانب الإسرائيلى على مائدة التفاوض.
• • •
يثور التساؤل عما تستهدفه الولايات المتحدة من مغالطة المعية والسببية الزائفة فى إنهاء القتال فى الحالين. الإجابة تكمن فى أنها لا تريد هزيمة كاملة لإسرائيل إذ الهزيمة الكاملة تعنى إنهاء دورها الوظيفى فى المنطقة كدولة استيطانية استعمارية تمارس أدوارًا بالوكالة إخضاعًا لدول المنطقة بإرهابها، ومساهمة فى نهب ثرواتها لخزائن البيوت المالية للرأسمالية المتوحشة، ولأن الدور الوظيفى لإسرائيل يتم بفاعلية فى تطويق العدو الرئيسى للولايات المتحدة (محور روسيا الصين إيران) على رقعة الشطرنج الكونية. فلا ينبغى أن تهزم إسرائيل هزيمة كاملة إذن، ولا ينبغى أن تنشأ بالتبعية دولة فلسطينية مستقلة مهما طالت المفاوضات، إذ قيامها يعنى كذلك ذات النتيجة أى النصر الكامل للشرعية الدولية متمثلة فى قرارات 181 و242 وقرار وقف إطلاق النار الأخير وقرارات القضائية الدولية، بما يعنى انحسار دورها إن لم يكن انتهاؤه بالكلية. فالأمر إذن لا يخرج فى شأن سياق القرار عن اصطناع «حالة» - كما دلنا صُناع الحالات - لإظهار الأمر على غير حقيقته، ولاستمرار التعامل معه بعد ذلك فى ضوء الحالة المغلوطة والتى يعلمون هم عدم صحتها ولكنهم يماحكون فيها. ومع ذلك، فالسياق أوضح من اصطناع تلك الحالة حفظًا لماء الوجه وتعويمًا لإسرائيل وإخراجا للأمر وكأنها لم تهزم. فإسرائيل لم تحقق أهدافها المعلنة من الحرب، وحكومتها المتطرفة تصدعت حتى من قبل صدور القرار، وتكلفة الحرب عليها فى الداخل باتت ضاغطة بما يهدد أمنها ووجودها ذاته، وها هو القائد العسكرى لفرقة غزة بجيش الدفاع يعلن استقالته قبيل القرار «لفشله فى مهمة حياته» ليس هنالك أبلغ من ذلك فى إثبات الهزيمة الكاملة. • • • نأتى لدلالات القرار فى ضوء ما علمته من الإيجازات الصحفية عنه والتى نوجزها فيما يلى:
1- يقر القرار ضمنيًا بعدم تحقيق إسرائيل لمستهدفاتها المعلنة من الحرب وباستمرار حماس كحركة مقاومة، طرفًا فى المفاوضات وتواجدًا على أرض القطاع.
2- يقر كذلك ضمنًا بوحدة الأرض وسيادة أصحابها عليها بدليل الانسحاب الكامل منها وعدم عزل أى مناطق واقتطاعها.
3- ويقر كذلك بالوحدة الديموغرافية للسكان الفلسطينيين أصحاب الأرض بما يعنى عدم تهجيرهم أو تذويبهم قسريًا على أى نحو كان. يعنى أن القرار يقر ضمنًا بتوافر مقومات الدولة الفلسطينية من إقليم وشعب وسلطة سياسية؛ وإن لم يعترف بعد بقيامها. نأتى للتصورات التالية على القرار، وأهمها أن الولايات المتحدة تستهدف توظيف الفترة اللاحقة عليه لإنهاء ما صاحب الحرب من زخم الدفع بحل الدولتين وإنشاء دولة فلسطين وفقا لقرار الجمعية العامة 181 وقرارى مجلس الأمن 242 وقراره الأخير بوقف إطلاق النار والذى تأسس على توافر مقومات الدولة على نحو ما ذكرنا.
أمريكا تريد إعادة تدوير القضية وتمييعها فيما بعد إعادة الأسرى وبما قد يسمح لاحقًا باستئناف القتال إن أرادته إسرائيل. وما نص عليه قرار وقف إطلاق النار من مفاوضات تالية بين الجانبين هى تلك المعنية بتبادل الأسرى ولا شىء آخر. إذن القصد هو إعادتنا للمربع الأول، وهو ما لا ينبغى القبول به بعد تضحيات الدم الغالى، والصمود الأسطورى للشعب الفلسطينى الأعزل، والقتال البطولى لكتائب التحرير. وإذ كان لا قبول بالعودة للمربع الأول فإن التصور الواجب الالتزام به هو ما سقته فى مقالى للصفحة بعنوان «ما بعد الهدنة» بتاريخ 6 ديسمبر 2023 ومضمونه أن إعلان قيام الدولة لا ينبغى أن يكون منة من أحد أو باتفاق مع أحد، فأساسه الدولى يكمن فى مضمون قرار الجمعية العامة 181 وهو أمر موكول بأصحابه، أما المفاوضات فى مؤتمر تالٍ للتسوية الشاملة فلا ينبغى أن تكون لنيل الاستقلال أو لإنشاء الدولة ولكن للتوصل لتسويات للمسائل المشتركة بين الدولتين ضمانًا لأمنهما وذلك دون مساس بمسائل الحدود أو نزع السلاح.
وإذا كان إعلان قيام الدولة يقتضى توحدًا شبه كامل من جملة الفصائل الفلسطينية بما فيها منظمة التحرير التى وإن كانت هى الممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطينى بمقتضى قرار قمة عربية، فإن حركة حماس كمقاومة فلسطينية أضحت بحكم الصمود وتضحيات الدم والنصر السياسى فى الميدان ممثلًا حقيقيًا له. وينبغى على الجانبين أن يتحدا وعلى حماس دفعًا برسائل الطمأنه - بصدق ووطنية كاملة - أن تعلن بوثيقة غير قابلة للنقض ومن أعلى مستويات قياداتها السياسية والميدانية، أنها ستتحول لحزب سياسى مدنى ديمقراطى ينافس بالأساليب الديمقراطية على السلطة بمجرد إعلان قيام الدولة وتبادل وثائق الاعتراف بها ووثائق عضويتها الكاملة بالأمم المتحدة، وأنها ستضع سلاحها رهن السلطة الفلسطينية المنتخبة فى اليوم التالى لذلك، ممارسة للسياسة بغض النظر عن خلفيتها الأيديولوجية وبهذا وحده يبدأ الطريق.
مواطن عربى من مصر