الكتابة.. وفوضى النشر!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 29 يونيو 2024 - 7:15 م
بتوقيت القاهرة
(1)
من بين الموضوعات التى عالجتها فى كتابى «على أجنحة السرد» (صدر قبل ثلاثة أعوام) ظاهرة «فوضى النشر» التى نشهدها على كل المستويات فى السنوات العشر الأخيرة! والكتابات التى تدعى أنها «أعمال أدبية»، وهى لم تصل إلى الحد الأدنى من الأدبية واللغوية والجمالية معًا!
أحاديث لا تنتهى عن طوفان الإبداع (هكذا!) الذى لا يواكبه أى نشاط نقدى، وترديد اتهامات هى أقرب إلى خزعبلات منها إلى كلام علمى يعتد به، وينظر إليه، حول كسل النقد والنقاد وابتعادهم عن مواكبة ما ينشر من الإبداع!
والحقيقة التى لا يمكن أن يختلف حولها أحد: وماذا يمكن أن يفعل بشر مهما أوتى من جهد وقدرة وطاقة أن يقرأ أكثر من كتاب واحد فى اليوم (على افتراض أنه متفرغ تفرغًا تامًا اليوم بطوله!) بما يعنى أنه يقرأ 365 كتابًا فى السنة (على افتراض أنه لا يمرض ولا يتعرض لأى طارئ أو مانع إنسانى لمدة أيام طالت أم قصرت!)، وبالتالى فلا أظن أن أحدًا يمكن أن يمارى فى حدود هذا الرقم إن لم يكن بأقل من ذلك بدرجات!
فإذا كان ما ينشر سنويًا باللغة العربية (غير المترجم) ضعف هذا الرقم بمائة مرة على الأقل، فمن العبث والخطل وسوء الرأى أن يتهم القارئ النشط الأساسى المعنى بالتعاطى مع هذا النتاج بأنه لا يقرأ أو يتكاسل أو لا يؤدى ما عليه!
(2)
لم يعد خافيًا تلك المشكلات الظاهرة والمزمنة، المتمثلة فى عبثية النشر وفيضان الكتب الذى يندفع بلا هوادة حتى صار من الممكن الاقتراب من قول إن كتابًا من تأليف كل مواطن ستكون عبارة متداولة فى السنوات القريبة المقبلة!
ومن الملاحظ لجميع المشتغلين بالنشاط الإبداعى «الكتابى» بخاصة، عدم ضبط المسافة بين الطموح العالى المتجاوز لسقف الإمكان والقدرة، وبين المؤهلات الحقيقية التى يمكن لها أن تصل إلى هذا الطموح أو تقترب منه حتى!
هذه المسافة أو الإشكالية تسبب العديدَ والعديدَ من المشكلات والأزمات خاصة مع التقديرات المبالغ فيها من أصحاب الكتابات الأولى (التى هى أشبه بالمسودات البدائية والمدرسية الساذجة؛ أو خطاطات لموضوعات تعبير فجة وإنشائية مبتذلة وسخيفة، وصيغ أخرى لخواطر المراهقين والمراهقات فى نهايات المرحلة الإعدادية أو قبلها البعض يطلق عليها روايات وقصصًا!).
ثم مع السهولة المتناهية الآن فى النشر، وتبنى بعض دور النشر الصفراء (على غرار الصحف الصفراء أو صحف بير السلم!) لاستثمار هذه الرغبات المدفوعة بحب الشهرة أو البحث عنها (هى والمال) أو الوجاهة وملء الفراغ (ظهر ذلك فى بعض الطبقات الثرية فى السنوات الأخيرة بكثافة ملحوظة) والاحتيال على أصحاب هذه الرغبات، والدفع بهذا الإنتاج إلى المطابع والتسويق لها فى نطاقات جغرافية نائية أو مناطق ذات كثافات أو فى مجموعات ودوائر يتم تشكيلها وصياغة توجهاتها عن طريق السوق الافتراضى «الوهمى» على سوشيال ميديا التى وصلت إلى درجة من التوحش والضخامة والتأثير «مذهلة»، وبدرجة لم يتصور أيًا كان أن تصل إليها!
(3)
ولعل كلمة الروائية الفلسطينية سحر خليفة، رئيسة لجنة التحكيم فى واحدة من دورات الجائزة العالمية للرواية العربية، تلخص خير تلخيص الوضع الذى وصلنا إليه الآن! وكأنها أرادت أن تلقن الكتاب والناشرين والمهووسين بالنشر «عمال على بطال» درسًا محترمًا فى ضرورات الكتابة ولوازمها واستكمالاتها الأساسية للحد من فوضى النشر وطوفان الأعمال التى كتب على غلافها «رواية»، وهى ليست كذلك!
لقد وضعت الكاتبة القديرة يدها باقتدار على الحاصل الآن من فوضى وعبثية فى الكتابة والنشر معا: فعدد كتّاب الرواية فى هذا العصر، يكاد يوازى عدد قراء الرواية، أو قد يزيد!
وهذا الفيضان - الذى لا يكف عن الفيضان - من الروايات التى وصلت لجنة التحكيم، وهى تجزم بالتأكيد أن فى السوق أضعافها لم تصلنا، يدل على أن معظمَ أبناء الجيل الجديدِ من الكتاب «يكتبون أكثر بكثير مما يقرأون» بدليل أن كتاباتِهم لا تشير إلى نضج فى المعرفة، وصقل وتمرس للموهبة، وهو النتاج الطبيعى للقراءة والاستيعاب!
وهذا التعبير الذى قُصد به أن يتخذ شكلًا روائيًّا غيرَ مكتمل النضج، شجعتها ودربتها وسائل التواصل الاجتماعى، حيث بات كلُّ صاحب حساب «كاتبًا وناشرًا وناقدًا» فى الوقت نفسه، متجاوزًا كل الشروط اللغوية والفكرية والمعرفية.
(4)
وتختتم الكاتبة القديرة بيانها الرائع باكتشافها «الثانى» وهو قيامُ بعض الناشرين، وما أكثرُهم، بنشر نصوص يكتبون على غلافها جزافًا كلمة «رواية»، إما للتشجيع أو للترويج، وهى كلمة لا تصف المضمون بأى حال من الأحوال.. وهذا للأسف يشكل عبئًا ثقافيًا، وهدرًا ماديًا وهبوطًا فى الذوق العام.
أنا أظن أن الأمر فى حاجة إلى دراساتٍ مستفيضة تتضافر فيها كل العلوم المعنية، وليس سوسيولوجيا الأدب أو الثقافة فقط.