مهرجان (آفينيون) المسرحى وأصداء الثورة فى تونس ومصر
صبرى حافظ
آخر تحديث:
الجمعة 29 يوليه 2011 - 9:01 ص
بتوقيت القاهرة
أعود من جديد إلى مهرجان أفينيون الذى أتردد عليه منذ عدة سنوات. وهو أحد أهم المهرجانات المسرحية فى العالم، وأهم وأعرق مهرجان مسرحى فى أوروبا. كما أنه بالقطع أكبر المهرجانات المسرحية الأوروبية، حيث يتكون المهرجان من قسمين: أولهما القسم الرسمى أو بالأحرى، مهرجان آفينيون Festival D’Avignon السنوى، الذى وصل هذا العام الخامسة والستين من عمره.
ويحرص على أن يقدم أهم إنجازات المسرح الأوروبى والعالمى، وأن يتيح لأهم فنانى المسرح الأوروبى عرض أحدث أعمالهم، والذى لا يقل ما يعرض فيه كل عام عن أربعين عرضا فى أسابيع المهرجان الثلاثة. والثانى هو القسم التجريبى المعروف باسم «آفينيون أوف Avignon Off»، والذى يتجاوز عمره الأربعين عاما، ويمتد لشهر كامل، ويتجاوز عدد ما يعرض فيه من فنون المسرح المختلفة (من المسرح التقليدى بكل أجناسه الدرامية التراجيدية والكوميدية والتهكمية الساخرة، إلى مسرح المقهى والبانتومايم ومسرح العرائس، ومسرح الحواة والسحرة، إلى السيرك والرقص المسرحى والمسرح الغنائى والموسيقى) كل عام خمسمائة عرض، فى عشرات الأماكن والفضاءات المختلفة، ناهيك عن مسرح الشارع بتجلياته المختلفة، حيت تتحول شوارع المدينة فى فترة المهرجان إلى مسرح دائم مفتوح.
أعود إليه هذا العام لأتلمس أصداء ما أصبح يسمى فى الخطاب الغربى بالربيع العربى، بثورتيه التونسية والمصرية، وبمظاهراته واحتجاجاته السياسية المفتوحة على كل الاحتمالات، فى هذا المهرجان، وكيف ظهرت تجليات هاتين الثورتين فيه. وبالتعرف على نبض المسرح الأوروبى وما يشغل فنانيه من رؤى فنيه ودرامية. فقد لاحظت من خلال قراءتى لبرنامج المهرجان، وهو مهرجان فرنسى أولا، أوروبى ثانيا، ثم عالمى ثالثه إنه يحتفل كالعادة بأعلام الثقافة الفرنسية فى المحل الأول، وفى هذه المرة يحتفى بمئوية الكاتب الفرنسى الكبير جان جينيه، فيقدم لنا قراءة لأحد أهم نصوصه، تقدمها الممثلة القديرة جان مورو، وهو نص (المحكوم عليه بالإعدام). ويقدم فى الوقت نفسه بعض أبرز الاستقصاءات أو التأويلات الفرنسية للمسرحيات الأوروبية، التى أصبحت من كلاسكيات المسرح العالمى، كما يهتم فى الوقت نفسه بالتجارب الطليعية فى المسرح الأوروبى، وما تطرحه من رؤى حول المسرح والإنسان.
ولأن المهرجان لا يزال مفتوحا حتى آخر هذا الشهر، ولا يزال فى جعبته الكثير من المسرحيات، التى حجزت تذاكرها ولم أشاهدها بعد، فسوف أقدم للقراء هذا الأسبوع بعض أصداء الثورتين المصرية والتونسية فيه، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال ما تابعته فيه حتى الآن من مسرحيات.
ومن الطبيعى أن نبدأ بالتجليات المباشرة، والتى تتمثل فى استقدام المهرجان للعرض المسرحى التونسى (يحيى يعيش) من إنتاج فرقة «فاميليا»، والذى كتبته جليلة بكار وفاضل الجعايبى، وأخرجه فاضل الجعايبى. وهى مسرحية عرضت لأول مرة فى تونس فى شهر أبريل عام 2010، ولاقت نجاحا كبيرا فيها، لكنها اكتسبت بعد الثورة بعدا آخر، حيث اعتبرت من الأعمال الجريئة التى استشرفت الثورة قبل وقوعها. وتنبأت بالكثير مما حدث بعد وقوعها.
والواقع أن هذا الأمر ليس غريبا على المسرح التونسى الذى أعتبره من أهم المسارح العربية، إن لم يكن أهمها قاطبة، خاصة فى إبداعات أعلامه الكبار من أمثال فاضل الجعايبى وتوفيق الجبالى ومحمد إدريس وعزالدين قنون وغيرهم. وقد شاهدت أثناء زيارتى الأخيرة لتونس، وكانت فى مطلع شهر ديسمبر الماضى، والذى اندلعت الثورة فى نصفه الثانى بعد أقل من أسبوعين من مغادرتى، حينما حرق محمد بوعزيزى نفسه فى سيدى بوزيد فى 18 ديسمبر، آخر مسرحيات توفيق الجبالى (أشطح مع القرد) وهى مسرحية تهكمية مدهشة، تناقش فى الظاهر وباء الإيدز، الذى انطلق فى إحدى النظريات، التى تفسر وجوده من القرود، ومن هنا عنوان المسرحية (أشطح، أى أرقص باللهجة التونسية، مع القرد)، ولكنها تتحول فى هذا العرض المسرحى المدهش إلى استعارة لوباء أشمل، وباء اجتماعى وسياسى وثقافى وحضارى ينهش المجتمع التونسى، ويسد الأفق أمام شبابه، ويشطح أبناؤه شبه منومين أو محبطين مع قردة من كل شكل ونوع: قردة الفقر، وقردة الإحباط والفساد، وقردة الرقابة والثقافة، وقردة الأمن والقهر والاستبداد.
أقول ليس غريبا على المسرح التونسى أن يستشرف الثورة، وهذا ما شعرت به بعد مشاهدتى لمسرحية توفيق الجبالى الأخيرة قبل اندلاع الثورة بأسابيع. كما تيقنت منه بعد مشاهدتى لمسرحية جليلة بكار وفاضل الجعايبى (يحيى يعيش) هنا فى آفينيون هذا الأسبوع.
صحيح أن فاضل الجعايبى يؤكد فى برنامج المسرحية المطبوع ما نعرفه جميعا، وهو أنه ما من أحد استطاع أن يتنبأ بوقوع الثورة التونسية أو المصرية بالطريقة، التى حدثت بها. ولم يتصور أحد أن حرق البوعزيزى لنفسه، ورفضه للإهانة يمكن أن يفجر ثورة شعبية كاسحة بهذا الحجم. فقد استمرأ الشعب العربى الهوان لسنوات، ومرغ الساسة والحكام العرب على اختلاف مسمياتهم ومشاربهم المنطقة كلها فى مباءات التبعية والهوان. كنا ندرك جميعا، خاصة المثقفين أصحاب الرؤية والضمائر الذين لم يدخلوا حظائر الأنظمة ولم يضعفوا أمام آليات احتوائها الجهنمية، أن الوضع لا يطاق، ولا يمكن له الاستمرار. وأن الأنظمة العربية قاطبة ليست فاقدة للرؤية والمشروع فحسب، ولكنها فاقدة للشرعية واللغة فى حضيض الفساد والتبعية أيضا.
لكن لم يتصور أحد، وقد دججت الأنظمة نفسها بآلة قمع جبارة وجهنمية، وغير مسبوقة من حيث الحجم والتمويل والإمكانات فى التاريخ الحديث، إنها ضعيفة إلى هذا الحد. لذلك فاجأنا الشباب بإصراره، والشعب بحدوسه ورؤاه العبقرية، والنظام بهشاشته وتخبطه وتهاويه، وهى كلها مفاجآت جميلة، بدل معها الخوف مواقعه، وتحرر معها الشعب من مخاوفه ليصبح من جديد مصدر كل شرعية وكل السلطات، وارتعدت أوصال الأنظمة، التى لم تتهاو بعد، وأخذت فى التخبط والعمل على احتواء الثورة والتآمر عليها. لكن هيهات! فقد تغيرت صورة المنطقة إلى غير رجعة، ولا سبيل للعودة بعقارب الساعة للوراء.
عروش خاوية
فقد كانت كل المؤشرات تنبئ بأن كل تلك السلطات والعروش الخاوية والعارية من كل شرعية إلى زوال. هذا ما تؤكده مسرحية جليلة بكار وفاضل الجعايبى (يحيى يعيش: أمنيسيا) الجميلة التى شاهدتها هنا فى مسرح «مون فافيه» فى آفينيون قبل أيام. والمسرحية جزء من جهد مسرحى لفرقة الجعايبى وبكار «فرقة فاميليا المسرحية» لتأمل ما جرى لتونس بعد الاستقلال. بدأ فى مشروع ثلاثية تتناول خمسين عاما من الاستقلال. بدأ جزأها الأول عام 2006، ذكرى خمسينية الاستقلال، بمسرحيته (خمسون) أو (جثث محاصرة)، التى تأمل فيها المشهد التونسى، وأسباب تخثر أحلام الاستقلال التنويرية وانزلاق المجتمع اقتصاديا وسياسيا إلى حضيض الإسلاموية والنزعة الماضوية. وقد تعرضت المسرحية لرقابة شرسة، ومنعت من العرض فى تونس لأكثر من عامين. لذلك اقترح الكثيرون عليهم، كما يقول فاضل الجعايبى فى برنامج المسرحية، الاختفاء فى الجزء الثانى خلف سوفوكليس أو شكسبير، وطرح ما تريد الفرقة طرحه. لكنهم رفضوا، وأرادوا طرح الحقيقة على الجمهور بلا قناع فى هذه المسرحية الجديدة، بالرغم من معرفتهم بالخطوط الحمراء التى عليهم ألا يتجاوزوها. ومع ذلك ملأوا المسرحية بإشارات كثيرة للحاضر والماضى القريب، يستطيع الجمهور أن يلتقطها بسهولة.
صحيح أن الرقابة المثلثة (وزارة الثقافة والداخلية والرئاسة) اضطرتهم لحذف الكثير، خلال جدل استغرق أكثر من ثلاثة أشهر، لكنهم استطاعوا التعويض عنه بأشكال مراوغة ملأت المسرحية بالإشارات التى جعلتها قادرة على إيقاظ الشعب من تلك «الأمنيسيا: أى فقدان الذاكرة»، التى غرق فى فيافيها، ورد ذاكرته التاريخية والسياسية له.
فأهم ما مكن المسرحية من التأثير وأرهف فى الوقت نفسه من قدرتها الاستشرافية هو هذا الجدل الخصب بين الشكل والموضوع فيها، لأن بنية الكابوس، الذى لا يستغرق سوى دقيقة أو اثنتين هى البنية الزمنية التى انتقتها المسرحية، لأنها البنية الكاشفة عن واقع كابوسى، ولكنه بقوة الفن المراوغة عابر ومؤقت مهما كانت كابوسيته.
كما أن شكل الحد الأدنى المتقشف المولع بما أود دعوته بدرجة صفر المسرح، أو التمسرح، فنحن هنا بإزاء منهج يستقى الكثير من مسرح بريخت الملحمى، ويعتمد على درجة صفر اللون: الأسود، ودرجة صفر الحركة، المسرح الخالى تماما من كل حركة، ودرجة صفر الإشارات المسرحية من ديكور وإكسسوار، فالمسرح الذى أمامنا ليس إلا مساحة سوداء خالية تماما، ليست كمساحة بيتر بروك الخالية، ولكنها مساحة عامرة بالفراغ والخواء، الذى يوشك ثقله أن يبهظ المشاهد مع بطء البداية المتعمد. وفراغ المسرح وتقشفه هذا هما أداة البداية، ومحتوى الشكل المسرحى الذى نبدأ به (يحيى يعيش). تقشف يوشك أن يكون مطلقا، يعرى الخشبة من كل شىء، حتى من الألوان نفسها، ويولع بتعرية كل الأحداث والشخصيات حتى النخاع، والاستغناء عن كل الديكور والإكسسوارات، عدا الكرسى بالطبع، والذى سيفد إلى الفراغ بعد البداية الأولى، وعن أى خدع بصرية أو سمعية أو حركية، والاعتماد فحسب على جسد الممثل والكلمة، هو الذى استدعى تلقيا يحتم فك شفراتها، وملء فجواتها، وإبلاغ الجمهور رسائلها المتعددة. بالصورة التى أصبح فيها الحدث الدرامى كله استعارة قوية لا لما كان قبل الثورة فحسب، بل لكثير مما دار بعدها أيضا.
سقوط الطاغية
فالمسرحية تحكى لنا بعد مجموعة دالة من البدايات المؤطرة للعمل بأكثر من إطار: إطار التلقى والمنظور الذى يخرج بالعمل من بين الجمهور ويورطه فيه، وإطار السلطة، حيث الاحتفال بعيد ميلاد سلطوى ترجع أصداؤه أغنية مارلين مونرو التى غنتها فى عيد ميلاد كينيدى، وإطار الكابوس الذى يحوّل العمل إلى مسرحية داخل مسرحية، قبل أن نعود من جديد إلى السؤال الأول عن الوقت أثناء حفلة عيد الميلاد، وقبيل توقيت إذاعة نشرة الأخبار المسائية الأساسية.
بعد هذه البدايات/ الأطر تقدم لنا المسرحية هذا الكابوس الذى يجد الرجل الكبير نفسه فيه، حيث يسمع «يحيى يعيش» فى نشرة الأخبار التليفزيونية نبأ تنحيته، فى نوع من الانقلاب المباغت، الذى تصحبه قعقعات المدافع وضجة الانفجارات المصمية، التى تثير الفزع بين الممثلين والجمهور على السواء. وتتعاقب بعد ذلك الأحداث حيث يقرر «يحيى يعيش» أن يبتعد عن البلاد مؤقتا حتى تهدأ الأمور، فيفاجأ بأنه ممنوع من السفر هو وأسرته، وأنه موضوع تحت الإقامة الجبرية. ويصرخ يحيى بأنه مظلوم، وبأن الله سينصره على من ظلمه، تماما كما يتردد عن مبارك المخلوع أن يردد كلما أفاق من سماديره. ثم يقع حريق فى مكتبه لا نعرف إذا ما كان هو الذى أشعله كى يحرق الوثائق التى يريد ألا تقع فى أيدى من عزلوه، أم أن الحريق كان بفعل فاعل يريد الإجهاز على حياته والتخلص منه.
وتتوالى الأحداث عليه، تلفه فى عاصفتها التى تنزل به من حضيض إلى آخر، فلا نعرف ما هو تلقائى منها، مما هو مخطط له من قبل أجهزة السلطة والأمن الجهنمية. وينتهى به الأمر على كرسى متحرك فى مصحة عقلية يتعرض فيها لاستجوابات فريق لا نعرف إن كان فريقا من الأطباء أم من المحققين.
ومن خلال قراءاته، وأحلامه، ومرايا ذاكرته، وتخثر محاولات محاميه لإنقاذه، ورغبات صحفية فى إجراء حديث معه لجريدة خليجية مهمة، وما يحدث له أثناء التحقيقات، وما يعانيه أبناء شعبه من صنوف القهر، التى سرعان ما يتاح لمن يعملون بالمستشفى مساءلته عنها، تقوم المسرحية بعملية تفكيك دقيقة لآليات السلطة، والحزب الواحد، ومسئولية السياسة عن تخليق الأفق الاجتماعى والاقتصادى المسدود، ودور الثقافة والصحافة والإعلام فى تكريس خطاب الاستبداد، وتمييع أى خطاب معارض أو تشويهه وتهميشه. بالصورة التى تتحول معها المسرحية إلى دراسة درامية لما يفعله الاستبداد لا لمن يمارس عليهم فحسب، وإنما لمن يمارسونه أنفسهم كذلك.
كما تكشف لنا ليس فقط حتمية انتهاء الاستبداد مهما طال، ولكن أيضا الكثير عما جرى بعد نهايته. فحديثها عن حريق الوثائق قد تحقق بعد سقوط الطاغية، ففى مصر نعرف جميعا كيف قضى زكريا عزمى أياما بل أسابيع يحرق الوثائق ويفرمها، وكيف يردد مبارك أنه مظلوم، رغم أن سيل مظالمه قد فاق كل تصور، وكثير مما دار بعد سقوط الطاغية الذى تنبأت به حتى ولو لم تكن نهايته بالصورة التى جرت بها فى حدود المتصوّر.
مسرح الأفكار
أما التجلى المباشر الثانى لأصداء الثورتين فكانت تلك الندوة، التى عقدها المهرجان تحت عنوان عريض يناقش فيه كل دورة عددا من القضايا المهمة: هو «مسرح الأفكار». وهو شكل يتأرجح فى معظم الأحيان بين الندوة الجادة والعرض المسرحى الذى ينطوى على قدر من الارتجال. وقد تضمن «مسرح الأفكار» هذا العام مجموعة من المحاور، يدور كل منها فى يوم مختلف ويشترك فيه مختصان فى الموضوع، اللهم إلا فى حالة أعلام الفكر والفلسفة من المشاهير، ساعتها يكون هناك مفكر واحد بارز يقدم محاضرة يدور حولها جدل وحوار بينه وبين الجمهور.
وكان هناك أثنان من هذا الطراز هذا العام قدم أولاهما: «كيف نخرج من الكارثة» الفيلسوف السلوفينى الشهير سلافوج زيزيك Slavoj Zizek ، وقدم الثانية: «كيف نفكر فى الجمعى اليوم» المفكر والفيلسوف الإيطالى الشهير انطونيو نيجرى Antonio Negri. وعلاوة على هاتين المحاضرتين كان هناك محور عن «الطفولة بين التقديس والتضحية» بمناسبة تردد ثيمة الطفولة ودور الأطفال فى المسرح فى أكثر من عمل. ومحور عن «أى نسوية اليوم» يناقش ما جرى لأفكار الحركة النسوية بعد نصف قرن. وثالث عن «الفن فى مواجهة النسيان»، ورابع عن «الثورة والديموقرطية: البحر الأبيض المتوسط الجديد» وهو المحور الذى ناقش الثورة فى مصر وتونس، وشارك فيه كل من جليلة بكار وجيل كيبيل. وقد استغرق مسرح الأفكار هذا عدة ساعات، طرح فيها كل منهما تصوراته وأفكاره عما جرى فى الربيع العربى، حيث قدمت جليلة بكار رؤيتها لما حدث فى تونس، وقدم جيل كيبيل استقصاءاته لما جرى جنوب المتوسط، والتى اجتر فيها الكثير مما هو معروف، ولكن ربما كان ضروريا للجمهور الفرنسى غير المتخصص أن يستوعبه. كما طرح بعض استشرافاته لما سيجرى خاصة فى المنطقة، التى نعتها فى تقسيمه للمنطقة العربية إلى ثلاثة أقسام، يضم أولها البلدان المتجانسة تكوينيا وسكانيا ويضع فيه كل بلدان شمال أفريقيا ومصر، ويضم الثانى المنطقة النفطية، أما الثالث فيضم الدول المليئة بالأقليات العرقية والدينية فى المشرق. لكن المثير فى تحليله هذا هو أنه يتوقع أنه برغم حماية الغرب الكبيرة للمنطقة النفطية من رياح الثورة والتغيير، فإنه من العسير حماية السعودية منها كلية دون أن يتعرض فى سمعته لخسائر كبيرة. وقد دار نقاش طويل بين المتحدثين وبين الجمهور كشف عن تعطش الفرنسيين لمعرفة كل ما يدور فى العالم العربى من ناحية، وعن سعادة الكثيرين منهم بالثورة المصرية خاصة، وأملهم فى أن تحقق أهدافها، وأن تتمكن من تحقيق شعارها الأساسى: كرامة، حرية، عدالة اجتماعية.
انتقل بعد ذلك إلى التجليات غير المباشرة لأصداء الثورة فى مصر وتونس وهى الأكثر مواربة وتشويقا. وقد تجلت هذه الأصداء فى أول عمل شاهدته فى مهرجان هذا العام وهو مسرحية الفنانة الإسبانية المرموقة أنجيلكا ليديل Angelica Liddell التى تعرفت على عملها المسرحى الشيق فى العام الماضى حينما رأيت معالجتها العصرية والتجريبية معا لمسرحية (ريتشارد الثانى) لشكسبير. وجلبت هذه الشخصية التاريخية المجبولة على الشر إلى عالمنا المعاصر لتجعلها مثالا حيا ومؤثرا على الكثير مما يمارسه ساسة هذا العالم المعاصرون. وقد قدمت هذا العام مسرحيتها الجديدة (ملعون الإنسان الذى يثق فى البشر: مشروع عن الأبجدية Maldito Sea el Hombre Que Confia en el Hombre: Un Projet d’Alphabetasation)، التى انتهت منها فى مايو الماضى، بعد تجارب عدة فى معمل الماتادور للإبداع المسرحى. والقسم الأول من العنوان هو مقولة شهيرة من سفر إرميا فى التوراة، استدعتها حالتها النفسية والأزمة الحياتية، التى كانت تمر بها وتزعزع ثقتها بالإنسان. أما القسم الثانى من العنوان: مشروع عن الأبجدية، فقد نجم عن تعلمها، وقد تجاوزت الأربعين من العمر، اللغة الفرنسية، ورغبتها فى أن تربط كل حرف بكلمة، واستقصاءاتها حول اللغة. ووعيها بأن الروابط بين الحروف والكلمات ليست بريئة كما تزعم كتب تعليم اللغة.
والواقع أن المسرحية شيقة وتستحق أن نتوقف إزاء ما تعرضه علينا من رؤى وأفكار حول اللغة، والحقيقة والوضع الإنسانى، لكن ضيق المكان لايسمح إلا بتناول ما يربط هذه المسرحية بأصداء الربيع العربى والثورة المصرية خاصة، وهو أنها تؤكد فى استقصاءاتها للوضع فى إسبانيا، أن باب الشمس، وهى الساحة المدريدية الشهيرة، ليست ميدان التحرير، وأن ما يدعى بالربيع الإسبانى ليس ربيعا على الإطلاق على العكس من الربيع العربى. فأهم ما طرحه ميدان التحرير على العالم من وجهة نظرها هو أنه غير من قواعد المعادلة، ونقل الموقف الأخلاقى الأعلى من الغرب إلى الشرق، ووضع نهاية للنفاق الذى كان يمارسه العالم فى حياته اليومية دون أن يعى، ووضع العالم أما الحقيقية إزاء ثورة تقول له، حسب تعبيرها، «لا نريد أن نكون المستقبل.. نريد أن نكون الحاضر».
أنظمة استبدادية مقيتة
فأهم ما طرحه الربيع العربى على العالم هو الأسئلة الكبرى حول حال العالم الذى استنام فيه الغرب إلى دعاة احتلاله للموقف الأخلاقى الأعلى، بينما كان يشارك فى إطالة عمر أنظمة استبدادية مقيته. ويغض الطرف، وما زال، عن انتهاكات تلك الأنظمة الفظيعة لحقوق الإنسان، بل يشجعها على المزيد من تلك الانتهاكات كى يمرر سياساته الخرقاء. وكيف أن رأسماليته المتوحشة قد استأدت مناطق أخرى من العالم ثمنا فادحا ودمويا فى كثير من الأحيان. وأن عولمته التى طالما تغنى بأهميتها ومنطقها الراجح ليست إلا شكلا قبيحا جديدا من أشكال استغلال الشعوب ونهب ثرواتها. هذه الأسئلة وغيرها هى ما تطرحة مسرحية (قفلة Courts-Circuits) للمخرج ومصمم الرقص الفرنسى Francios Verret فرانسوا فيريه، والتى انطلقت تصوراتها البصرية والحركية المدهشة من قراءته لرواية الكاتب الأمريكى المعاصر دون ديليلو Don Delillo (الرجل الذى يسقط Falling Man)، التى يصور فيها مايدور فى شوارع نيويورك عشية الحادى عشر من سبتمبر الشهير. لكن صورة محمد بوعزيزى، الذى حرق نفسه رفضا للإهانة، ودفاعا عن كرامته، ظلت الصورة المسيطرة على كل العرض المسرحى الحركى (قفلة)، والذى يسيطر منطق القفلة، التى تحدث فى الكهرباء عند اتصال السلكين الخطأ، فينقطع التيار، على كل شىء. فلم يعد ثمة ما هو صحيح حقا، أو بالأحرى ما يمكن أن نطمئن إلى صحته. لذلك ظلت شاشتان كبيرتان فى مؤخرة المسرح، تعيد لنا عرض ما يدور أمامنا، أو ما يقوم به الممثل أمامنا، ولكن بعد أن أحاطت به ألسنة اللهب من كل صوب.
ولا يزال فى جعبة المهرجان الكثير مما سنتريث عنده فى الأسبوع المقبل.