الحور داير ما يدور
بسمة عبد العزيز
آخر تحديث:
الجمعة 29 يوليه 2016 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
أخبار كثيرة تتوارد عن نساء فى أنحاء العالم. أخبار أغلبها موجب على درب المساواة والمنافسة. أقر الكنديون الشهر الماضى تغيير نشيدهم الوطنى لأن فيه صورة من صور التمييز والانحياز إلى جنس الرجال. كانت كلمات النشيد تتحدث عن مشاعر الوطنية فى قلوب الأولاد فصارت بعد تعديلها تتحدث عن قلوب الجميع. النشيد الكندى قديم لكن الانتباه إلى مضمونه لم يحدث إلا فى القريب، والرغبة فى تعديله وجعله منزها عن شبهات العنصرية قادت إلى اتخاذ مجلس العموم قرارا سريعا، وافقت عليه الأغلبية ونشرته الصحف.
ثمة عدوى انتقلت إلى الكنديين من الولايات المتحدة الأمريكية؛ عدوى تتعلق أيضا بالنساء، فبينما صوت الأمريكيون منتصرين لهارييت توبمان ــ المرأة سوداء البشرة التى حررت أعدادا غفيرة من بنى جلدتها المستعبدين ــ داعمين وضع صورتها على الورقة النقدية من فئة العشرين دولارا، تلقف الكنديون بدورهم الفكرة، وراحوا يستطلعون الآراء حولها، ويستعرضون أى النساء الكنديات تستحق التخليد عبر نقش صورتها على العملة الكندية. طالعت فى إحدى الصحف الكندية ذائعة الصيت تحقيقا كبيرا أفردت له صفحتان كاملتان عن نساء كنديات شهيرات، أدين أدوارا رائدة فى مجالات متعددة، وقد انبرى المستطلعة أراؤهم يختارون ويضيفون ويقترحون أسماء جديدة، ويذكرون حيثيات اختياراتهم. من بين النساء اللاتى ذكرت أسماؤهن جينى تراوت وهى أول كندية تحصل على شهادة الدكتوراة، ونللى ماكلانج وهى ناشطة سياسية دافعت عن حق النساء الكنديات فى التصويت وإيميلى كار وهى كاتبة وفنانة ذات مكانة رفيعة فى عالم الإبداع.
***
النساء المصريات كان لهن أيضا نصيب من الأخبار، وبينما تدخل هيلارى كلينتون سباقا محموما على رئاسة الدولة العظمى فى العالم وتواجه امبراطورا من أباطرة المال، وبينما تتولى تيريزا ماى رئاسة الحكومة الإنجليزية، وتواصل أنجيلا ميركل فى ألمانيا الدفاع عن حقوق المهاجرين واللاجئين أمام أشد دعاة الكره والتعصب، مقدمة نموذجا فريدا يجمع بين حزم وقوة السياسية البارعة من ناحية وإنسانية ونبل البشر من ناحية أخرى، تنبرى امرأة مصرية ــ تقدمها وسائل الإعلام على أنها من العالمات بأمور الدين ــ لتؤكد فى حماسة وحمية حق الرجل المسلم المقاتل فى الجيش أن يستمتع بالنساء الأسيرات لإذلالهن، إذ يصبحن «ملك يمينه». فى السياق ذاته يروج نائب من نواب مجلس الشعب لإجراء الختان ويدافع عن مرتكبيه ويزأر منحازا لحق امتلاك النساء وتقطيع أجسادهن. لم تجد عالمة الدين حرجا ولا غضاضة فيما نطقت كونها أزهرية تتمتع بالحماية المقدسة، أما النائب فقد اعتذر لاحقا، لكن الصب تفضحه عيونه، لا ينفى إعلانه الندم ما وقر فى نفسه، ولا يصلح اعتذاره ما أفسده الحمق والمرض. ولأن الشىء بالشىء يذكر، ولأن العالمة والنائب كلاهما ينتمى نظريا إلى كتلة المحافظين التقليديين، فجدير بالإشارة أن حزب المحافظين البريطانى هو الذى بادر بتفعيل دور النساء وتمكينهن فى المجتمع، إذ قدم امرأتين خلال عقود ثلاثة: تاتشر وماى لرئاسة الحكومة وقيادتها.
حين أنظر إلى الحال لدينا؛ وأقصد مصر ولا أسرح ببصرى ناحية جاراتها من البلدان العربية التى لم يعرف بعضها مساواة ولا كرامة للمرأة من قديم الأزل، حين أنظر؛ أدرك أننا مازلنا رازحين فى أصفاد لا تنصهر بمرور الوقت، إنما تتحور لتتخذ أشكالا جديدة وهيئات متباينة. تتعدد الأطر وتتنوع المظاهر ويبدو عديدها لامعا، أنيقا وبراقا، بينما الجوهر ثابت على عطنه.
***
أصغيت فى رمضان الفائت إلى أغنية أذاعها الراديو صباح يوم رطب كئيب. جوقة مكونة من أصوات نسائية، يفترض أنها تخاطب الصائم. الصائم بالطبع رجل، والنساء يرددن: «وتلاقى الحور داير ما يدور يتمنوا أوامرك وكلامك». اللحن فرح يتبختر والنساء يكررن هاشات باشات إشارات استبعادهن من المجتمع ومن الطقس الدينى، بل وحصرهن فى رمز استهلاكى. لازالت الأغنية تتردد فى رأسى رغم مرور أسابيع. أناشيدنا الدينية التى تذاع فى المناسبات الروحانية، لا تنفك تتحدث عن النساء والمؤنثات بوجه عام كبضائع للإمتاع. فكرت والحال هكذا أنه لا يصح قطعا أن توضع صورة البضاعة على ورقة نقدية تكريما لها، وإن كان الأمر حتميا ومثيرا للحرج، ففى الماضى السحيق مهرب مناسب. امرأتان وحيدتان انطبعتا على عملتين نقديتين من بين العملات المصرية الكثيرة: نفرتيتى وكليوباترا. الأولى اختفت من الحياة بعدما أوقف تداول الخمسة قروش الورقية، بينما الأخرى لا تزال تقاوم الفناء الثانى.
نحن أسرى الزمن الغابر، لا نهمش النساء فقط، بل والرجال أيضا. يزين ملوك وملكات الحضارة المصرية القديمة بعضا من أوراقنا النقدية، وتزين آثارنا البعض الآخر. نحن أسرى الجوامع والمعابد والعربات الحربية، لا نخرج من الجدران العتيقة ونفكر فى الحاضر، ولا نتطلع إلى الأمس القريب، ولا نحب استلهام ما صنع أعلام تاريخنا الحديث وما ترك أبطاله وأنجزت بطلاته. لا نريد أن نعرف عن نبوية موسى وطه حسين ولا نريد لصغارنا أن يسألوا عن درية شفيق وهدى شعراوى وقاسم أمين ومفيدة عبدالرحمن وسيزا نبراوى ومصطفى كامل وسلامة موسى وصفية زغلول ولطفية النادى وآخرين، وأخريات تضيق عن ذكرهن المساحة المتاحة. ربما مأساتنا أكبر من تهميش وقهر النساء، مأساتنا مضاعفة.