«محمد خان».. بهجة الاختلاف بحب
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 29 يوليه 2016 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
لم يكن من السهل استيعاب أن صديقا وفنانا ومخرجا كبيرا بقيمة محمد خان قد فارق دنيانا، ليس لعدم تقبل فكرة الموت فى ذاتها، فكلنا إلى زوال، وإنما فى «الفقد» فى الإحساس المؤلم الرهيب بأن عزيزا لديك قد فارق الدنيا، ولن تراه ثانية. لم يكن محمد خان «صديق عمر» بالمعنى الزمنى، لكنه كان إنسانا يغمرك شعور مبهج بأنك تعرفه منذ سنين، خصوصا إذا تبسم فى وجهك وخاطبك قائلا«إزيك يا واد»، هنا تعلم بأنه قد استراح لك واعتبرك من المقربين.
بالتأكيد كان محمد خان وطوال رحلته مع الحياة والسينما والناس، منذ أعلن عن نفسه كمخرج سينمائى سنة 1978 فى فيلم «ضربة شمس»، ملء السمع والبصر، حضوره الإنسانى والفنى باذخ وواسع المجال، وليس من أبناء جيلى ولا الأجيال السابقة ولا التالية من لم يتوقف عند فيلم أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر من أفلامه، احتلت مكانها فى القلب والروح، استفزت أسئلة وطرحت استفهامات عن قدرة هذا الفن العظيم «السينما» فى أن يرينا عن أنفسنا وعن العالم ما لا نعرفه ولا نراه.
من ينسى فيلم «الحريف»، وصوت «نهجان» عادل إمام يتردد كخلفية مربكة ومثيرة للخيال، من منا لم يقارن بين شخصية الحريف ولاعب كرة شراب «حقيقى»، كنا نتابعه فى الدورات الرمضانية ومباريات الأسفلت بمتعة وفضول وشغف.
«أحلام هند وكاميليا» وتفاصيل كنا نظن أننا سننساها بمجرد انتهاء مشاهدتنا للفيلم فنكتشف أن كل تفصيلة قد رسخت فى الذاكرة ولم تغب رغم كل هذه السنوات، وهل ننسى صوت الممثل الراحل عثمان عبدالمنعم وهو يقول بصوته الأجش المميز «عايزين برنجان النهارده يا كمولة»!
عندما كنت أشاهد هذه الأفلام وأنا صغير، لم أكن أعلم أن وراءها مخرج «مايسترو» يقود ويوجه وينشط خلايا الإبداع والتمثيل لدى فريق الممثلين الذين يتعامل معهم ويقودهم، لم أكن أعلم أن هناك رؤية ودلالة مقصودة لكل تفصيلة وزاوية كاميرا وتحكم فى إضاءة لإبراز أثر معين. فيما بعد، وحينما نمت المعرفة والقراءات، ومحاولات للفهم والتفسير، أدركت لماذا احتل محمد خان هذه المكانة، ولماذا كانت سمعته دائما تسبقه كواحد من أهم وأبرز ما اصطلح على تسميته بتيار الواقعية الجديدة فى السينما المصرية.
فى السنوات الخمس الأخيرة، وعندما بدأت ألتقى بمحمد خان فى مناسبات مختلفة، وتنعقد أواصر علاقة صداقة طيبة ووديعة، بدأت تتكشف لى جوانب أخرى من هذا الرجل الذى يبتسم وجهه دائما ابتسامة طفولية ماكرة لكنها دوما جميلة ومقبولة.
وحينما كنا نحتفل معه بصدور كتابه الجميل الممتع «مخرج على الطريق»، العام الماضى، اكتشفت قدرته الرهيبة فى الحكى وسرد الوقائع بخفة ظل وانطلاق لا تملك معه إلا أن تتابعه بتركيزك كله، تقريبا وفى كل لقاء جمعه بعشاق أفلامه وفنه كان يفتح خزانة الذكريات والأسرار ويتدفق فى الحكى عن رحلته الطويلة مع السينما، القاسم المشترك فى هذه اللقاءات جميعا قدرة المخرج القدير على الحكى والسرد المتدفق، تتخللها قفشاته ومداعباته المحببة التى كان يتجاوب معها الحاضرون بشدة.
فى هذه الأمسية الجميلة، التى قرأت فيها أجزاء من كتابه على الحضور، كان سعيدا غاية السعادة، فرحا كطفل صغير تكرمه المدرسة فى حضور أولياء الأمور والطلاب، جاء بقلم ذهبى جديد كى يوقع الكتاب، قال لى إن تأليف كتاب أمر مختلف عن إخراج فيلم، لكن فى كل الأحوال يتهيب جمهوره ويقدر أن كل ما يكتبه أو يخرجه يجب أن يكون لائقا وجديرا بمتلقيه، هكذا كان الرجل فى كلامه وسلوكه وحديثه وفنه وكل شىء.
كان كتاب «مخرج على الطريق» (صدر عن دار الكتب خان بالقاهرة 2015)، وعلى مدى صفحاته التى تقترب من الـ600، رسالة حب، قدم خان فيها ما يشبه «الخلاصة» لمشوار طويل مع السينما، عشقا وصناعة وإخراجا، حصادا لتجربة عريضة وممتدة مع هوى الفن السابع، درسا عمليا بين يدى عشاقها ومحبيها عن ما وراء الكواليس، أو «ما وراء الكاميرا ــ تجربتى مع السينما»، وربما يرى فيها البعض سيرة مولع «حقيقى» بالسينما. عبر عشرات المقالات تناول فيها قضايا وموضوعات كلها عن السينما؛ همومها وأوجاعها، حنين السنوات البعيدة، ذكريات لندن، مما سجله خلال أكثر من خمسة وعشرين عاما على صفحات الجرائد العربية والمصرية والمواقع الإلكترونية؛ الحياة اللندنية، القبس الكويتية، الدستور الأصلى المصرية، وجريدة التحرير المصرية.
هذا الكتاب الذى كان فيما يبدو رسالة خان «الأخيرة» على الورق وليس الشاشة، ولذا فقد كان بحماسة شاب فى العشرين من عمره يجوب المكتبات ويسافر خارج مصر مستجيبا لدعوات استضافته للحديث عن الكتاب ومناقشة جمهوره (حل ضيفا على معرض أبوظبى الأخير لتوقيع الكتاب ومناقشته فى واحدة من ندواته وفاعلياته المهمة).
أحببت محمد خان قبل أن أعرفه مباشرة، أحببته من شغف صديقى محمود عبدالشكور به وبأفلامه، الذى تقريبا لم يترك فيلما لمحمد خان لم يشاهده عدة مرات ويكتب عنه ويحلل مشاهده. قرأت كل ما كتبه محمود عن محمد خان، حكى لى كثيرا عن فنيات وجماليات أفلامه بحماس شديد ومحبة غامرة، وعندما تعرف إليه والتقاه فى بيته أكثر من مرة، قال لى: «أحب هذا الرجل.. فنان مبدع وطفل كبير». صحيح لم يكن خان من المقبلين على التعرف على الناس بسرعة ولا من المتواصلين اجتماعيا من مجرد لقاء أول أو حتى ثان، لكنه كان يحب البشر ويحمل طاقة ود وتعاطف وتفهم غير محدودة، سخريته ناعمة وقاتلة، ذكاؤه مرعب وإن بدت نظرات عينيه مستكينة ووادعة، وبسمته الجميلة مرتسمة على وجهه البشوش لا تعلم إن كانت ابتسامة رضا وسرورا أم ابتسامة شجن وأسى وسخرية مريرة من كل شىء.
وأنا أقرأ سطور ما كتبه محمود عن خان، وهى سطور كثيرة وغزيرة، تقرأ الأفلام، تحلل المشاهد، تكشف الحرفية والصنعة والموهبة فى بناء الصورة وإنتاج الدلالة، قلت فى نفسى إن هذا الرجل كان يتمنى أن يقرأ هذه الكلمات عنه، سيكون خان سعيدا بكل ما كتبه محمود عنه، خاصة هذا الكتاب الذى أتصور أنه أهم وأجمل وأمتع ما كتب عن خان وأفلامه.
عندما كتب محمود مقالا نقديا عن فيلمه الأخير «قبل زحمة الصيف»، وكان له رأى سلبى فى الفيلم، كتب له محمد خان بمحبة صادقة «آن لنا أن نختلف بحب».. يا له من شخص جميل وغريب! «آن لنا أن نختلف بحب» جملة عبقرية أعتبرها مفتاحا لفهم هذا الرجل ودعوة أيضا.. من الممكن أن يكون اختلافنا بحب ورُقىّ أيضا، إذا كانت دفة القيادة تقدر قيمة الاختلاف، وأن يكون اختلافنا بحب والله، والدليل، أكبر دليل، محمد خان نفسه، عليه رحمة الله.. عليه رحمة الله.
رحم الله المخرج الكبير.. وعوض جمهوره وعشاق فنه عنه خيرا..