تصحيح مسار التعاون المتوسطى يُمكن أن يُعالج أمراض الجنوب
سامح عبدالله العلايلى
آخر تحديث:
الأحد 29 يوليه 2018 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
منذ أن طفت على السطح فى السنوات الأخيرة مشاكل بلدان جنوب المتوسط من هجرة غير شرعية وعُنف وتطرف، وهى أعراض ظاهرة لمواجع باطنة مُتغلغلة فى عُمق مجتمعاتها التى جاءت كنتيجة طبيعية لسوء نظم إدارتها على مدى سنوات، ما أدى إلى تراجع شديد فى أحوالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد انتفضت أخيرا بلدان الشمال بعد أن تحول الأمر إلى هاجس كبير لصانعى سياسات دول أوروبا تزامنا مع وصول أحزاب اليمين المتطرف إلى السلطة فى كثير من بلدانها، تلك السلطات التى تسعى إلى إقامة حواجز منيعة بين الشمال والجنوب مانعة لاتصال الشمال القوى المُستقر بالجنوب الضعيف المُضطرب، إلا بالطرق التى يريدها هو المُحققة لمصالحه فقط دون أن يجد الجنوب من يتبنى مصالحه، لقد رحل المستعمرون القدامى بجيوشهم لكن بقيت أصابع مصالحهم الخفية مُستمرة فى العبث فى المنطقة.
إن جذور مشاكل الجنوب زرعها الشمال منذ عقود مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبدء نضوج الأفكار الأولى للقوى العظمى التى أفرزتها الحرب عن إعادة تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ وتبعية، حيث نشأ صراع كامن فيما بينها للفوز بأكبر قدر من الغنائم والسيطرة على مناطق شاسعة من العالم، والعمل على تحجيم القوى المنافسة ومنع احتمال قيام قوى أخرى جديدة، مثل تلك التى كان من المُمكن أن تقوم فى بلاد الجنوب بما تحويه من ثروات وتراث حضارى وقيمة بشرية لا يستهان بها، لذلك فقد سعت هذه القوى إلى مواجهة احتمالات قيام مشروع نهضوى مماثل لتجربة محمد على الرائعة التى انتشلت مصر من البؤس فى زمنها، التى أزعجت قوى الشمال الاستعمارية كثيرا ونجحت أخيرا فى تحجيمها، لذلك فقد اتجهت قوى ما بعد الحرب العالمية حفاظا على مصالحها إلى دعم قيام أنظمة حكم شعبوية فى دول الجنوب محدودة الخبرة والمعرفة تتمتع بسلطة مطلقة فى إدارة شئون البلاد دون أدنى قدر من المساءلة، ومُنيت معظم تجارب ومشروعات هذه الأنظمة بالفشل الذريع، ما انعكس على أداء اقتصاداتها وتكافلها الاجتماعى، وما أدى فى النهاية إلى حدوث شرخ عميق فى العلاقة بين شعوب وأنظمة حكم دول الجنوب، كما أدى ذلك المناخ المتوتر إلى عزوف أهل البلاد المُخلصين وعقولها المستنيرة عن المشاركة فى العمل العام أو المساهمة بآرائهم الصائبة فى مختلف القضايا الحيوية التى تهم بلادهم، حيث غالبا ما كانت تتصادم هذه المساهمات والآراء مع توجهات أنظمة الحكم المتسلطة السائدة.
***
لقد نجحت سياسة التحكم للقوى العظمى فى منع إمكانية قيام فرص حقيقية للتنمية لمجتمعات الجنوب بعد أن حولت المنطقة إلى سوق رائجة للمشروعات المشتركة الرنانة عديمة الجدوى، ولتجارة السلاح والمخدرات، واجتاحتها عبر الفضائيات ثقافة العنف وتفكيك التقاليد الأسرية والمجتمعية.
ومما ضاعف من الإحساس بالظُلم أن أُغلقت أبواب العبور إلى الشمال أو إلى أى جهة أخرى، بعد إقامة حواجز جديدة تمنع اتصال وحركة أفراد ومجموعات مواطنى الجنوب بغيرهم، ما أدى إلى تقييد حرية حركة كل من لديه الرغبة فى البحث عن فرص أفضل للحياة، ومُنع عن إنسان الجنوب ذلك الحق المتاح لجميع الكائنات على وجه الأرض فى الهجرة والانتقال من موطن لآخر فى حرية تامة حيثما وجدت فرص أفضل للحياة كالطيور والأسماك والحيوانات، ويجب ألا ننسى هنا أن حرية الانتقال والسفر والهجرة كانت هى السبب المباشر والأول فى انتقال المعارف والثقافات بين بنى البشر على مدى التاريخ، بل إن دولا بأكملها جاء ميلادها ونموها نتيجة لعوامل الهجرة وعلى رأس هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية واستراليا وكندا وإسرائيل... إلخ.
إن سياسة غلق الحدود فى وجه الآخرين استنادا إلى فكرة الاستحواذ المُنفرد على الثروات المُكتسبة ظُلما والخوف من مطالبة آخرين بنصيب من هذه الثروات أو الخوف من عدوى الفقر، هى سياسة ضيقة الأفق ومضادة تماما لفكر التعاون بين الشعوب التى نرفعها شعارا إعلاميا لا ينم عن الحقيقة، وقد أقر ميثاق الأمم المتحدة عام 1948 حق الإنسان فى حرية الحركة أينما شاء، كما أن اتفاقية تحرير التجارة العالمية تُقر بحرية الانتقال والاستقرار والعمل لمواطنى الدول الموقعة على الاتفاقية.
***
ولعله من المفيد قبل التطرق إلى سبل تصحيح العلاقة بين شمال وجنوب المتوسط لصالحهما معا، وعلى خلفية استعراض مظاهر التقدم الحضارى لمجتمعات الشمال الموازى لانحسار مجتمعات الجنوب، أن نُلقى الضوء على ما توصلت إليه الدكتورة «زيجريد هونكه» المستشرقة الألمانية التى كرست حياتها لاكتشاف نشأة وازدهار الحضارة العربية وفضلها على الحضارة الأوروبية فى الماضى، وقامت بنشر كتابها الموسوعى «شمس العرب تسطع على الغرب» عام 1962 فى ألمانيا، وحَصرت مجالات التقدم التى ارتادها العرب قبل غيرهم وتبحروا فيها قبل أن تعلم عنها أوروبا أو الغرب شيئا فى الطب والرياضيات والفلك... إلخ.
هل يُمكن أن ندعى اليوم أن لدى الجنوب دينا فى عنق الشمال؟.. فإذا كان الأمر كذلك، فلعل هذه الحقيقة تمثل نقطة انطلاق جديدة للتعاون الذى تتطلع إليه شعوب الجنوب فيما بينها وبين شعوب الشمال، فقد تدفقت المعارف منذ أجيال من الجنوب إلى الشمال، وجاء الوقت الذى نتطلع فيه إلى تدفق مماثل لمعارف ومهارات اليوم للحضارة الأوربية فى اتجاه الجنوب.
إن تأهيل مجتمعات الجنوب للمشاركة بفاعلية فى عالم الغد ومعالجة أمراضها يتطلب أن تسير هذه المجتمعات على الطريق الذى أوصل مجتمعات الشمال إلى الاستقرار السياسى والعدالة الاجتماعية وتكافؤ تلك المكتسبات التى ارتبطت ارتباطا وثيقا بمستوى الرفاهية والازدهار التى وصل إليها الشمال الأوروبى، فعلى المستوى الاقليمى لحوض البحر المتوسط فلقد أصبح من غير المقبول تجزئة الرخاء حيث إن معاناة أى جزء من المنظومة الإقليمية سيكون بالقطع له تأثير قوى على بقية الأجزاء، كما أن علينا ونحن نتطلع إلى التطوير السياسى والاجتماعى والاقتصادى لمجتمعات الجنوب ألا نتناسى قيمها الاجتماعية وتقاليدها المتوارثة التى هى جزء لا يتجزأ من هويتها الحضارية، وأن العبث بهذه القيم والتقاليد له تأثير خطير على إنسان ومجتمع الجنوب، وبالتالى على حوض البحر المتوسط بأكمله، وهو ما نراه قد بدأ الآن.
إن بداية طريق التعاون بين شطرى المتوسط، هى المساهمة الفاعلة ماديا وفنيا وسياسيا مع مجتمعات الجنوب لبدء مشروع تنموى على مستوى كل دولة مُحَدَدَ الأولويات وبالتوافق المجتمعى، وربما إقليمى على مستوى تجمعات دول، للإصلاح السياسى والإدارى تمشيا مع المناهج العصرية للحياة ومقدار التقدم الذى أحرزته بلدان كثيرة مماثلة فى ظروفها لظروف بلدان جنوب المتوسط، كذلك مساعدة هذه المجتمعات على محاولة التجمع فى تكوينات إقليمية اقتصادية تتكامل فيها الموارد والمصالح والأهداف، حيث إنه ليس لأى دولة من دول الجنوب أمل فى مواجهة عالم التكتلات الكبرى القائم بمفردها، وأن تجمّع هذه الدول يُزيدها قوة، لقد استغرق إقامة الاتحاد الأوروبى حوالى نصف قرن من الزمان حتى الآن وما زال مستمرا بشق الأنفس فى استكمال إجراءات التكامل التى لم تنته بعد، وربما كان تكتل الجنوب أكثر يُسرا فى الإنشاء من تكتل الشمال الذى تتعدد فيه الأصول العرقية واللغات والمقومات الاجتماعية وطبيعة الشعوب والثروات والموارد، لأن الوضع مختلف كثيرا فى بلدان الجنوب فهناك الكثير الذى يجمعها ويسهل عملية اندماجها.
ومما لا شك فيه أن إقامة مجموعات متكاملة اقتصاديا من دول الجنوب وربما مجموعة واحدة كبيرة يخطط لها بمهارة وبالاستعانة بخبرة أوروبا المتحدة، من شأنها النهوض بأنشطة اقتصادية مبتكرة وجديدة تقام على اتساع أراضى جنوب المتوسط تؤدى إلى ميلاد سلسلة من الأنوية العمرانية التنموية جاذبة للعمل والاستيطان لأعداد هائلة من البشر العاطلة عن العمل التى تضطر للهجرة غير الشرعية بحثا عن مصير غامض أفضل شمال المتوسط، كما أنها ستكون فرصة ذهبية لإقامة مؤسسات تعليمية تدريبية جديدة مشتركة بين الشمال والجنوب لنقل الخبرات والمهارات العلمية والمهنية المكتسبة فى الأنشطة الزراعية والحرف اليدوية والصناعات الصغيرة وخلافهم مع العمل على حماية التراث المحلى من الاندثار والهوية الثقافية المهددة بالضياع، وحماية البيئة الطبيعية من تأثير تغير الأوضاع بهذا الشكل.
***
هذا المستوى من التعاون المتوسطى يمكن أن يكون له مردود هائل لكل من الشمال والجنوب، فمن جهة يمكن أن يساعد على إعادة هيكلة بلاد الجنوب وإرساء قواعد قوية للتنمية الأمر الذى يساهم بدرجة كبيرة فى استقرار هذه المجتمعات الثائرة وتهدئتها، وفى معالجة مشاكل الهجرة غير المشروعة والتطرف والإرهاب فى عمقها، كما أن وجود قاعدة سكانية كبيرة فى الجنوب مؤهلة للعمل فى مجالات متنوعة ومدربة للتعاون والمشاركة فى أنشطة اقتصادية عديدة، يُمكن أن يضيف إلى قوة الشمال الأوربى قوة وطاقة عمل هائلتين وسوقا إنتاجية شاسعة تتكامل مع الاتحاد الأوروبى لمنافسة أسواق آسيا وأمريكا الشمالية المتحفزة.
لكن المعضلة الكبرى التى علينا تخطيها لتحقيق هذه الأهداف هى النُدرة الحالية لتوفر كوادر سياسية مُحنكة ومُنزهة فى بلاد الجنوب قادرة على مباشرة حوار متوازن المصالح مع الطرف الشمالى الأكثر خبرة ودهاءً وقدرة على المناورة، لكن هذه المعضلة يمكن تخطيها باستدعاء عقول الجنوب المهاجرة التى أثبتت وجودها فى بلاد المهجر للمساهمة فى دعم وإرساء قواعد جديدة وفاعلة لتعاون طرفى المتوسط.