اغتيال العقول العربية

عماد عبداللطيف
عماد عبداللطيف

آخر تحديث: الإثنين 29 يوليه 2024 - 7:45 م بتوقيت القاهرة


يوم 22 يوليو الحالى قصفت إسرائيل خيمة للصحفيين فى ساحة مستشفى شهداء الأقصى بغزة لتغتال باحثًا فلسطينيًا يختص فى دراسة الدعاية والإعلام هو الأستاذ حيدر المصدر. يُعدُّ المصدر واحدًا من أهم الباحثين العرب المعاصرين فى دراسات الحرب النفسية والبروباجندا. وطوَّر خلال السنوات الماضية مقاربة مهمة تدمج بين بلاغة الجمهور ونظريات الإعلام وطبقها على الحرب النفسية التى تشنها إسرائيل على العرب والعالم. درس «حيدر المصدر» خطابات البروباجندا الإسرائيلية مثل خطاب المتحدث الرسمى باسم جيش الاحتلال على وسائل التواصل الاجتماعى. وكانت له مساهمات إعلامية توعوية، يفحص فيها خطابات الاحتلال، وينقدها، ويستكشف سبل التعامل معها عربيًا ودوليًا.
يأتى اغتيال المصدر ضمن سياسة اغتيال العقول العربية النابهة التى اتبعتها إسرائيل طوال تاريخها الملطخ بالدماء. ولم تفرّق إسرائيل بين اغتيال علماء الفيزياء مثل المصريين سميرة موسى ويحيى المشد واغتيال علماء الإعلام والدعاية مثل حيدر المصدر. وبقدر ما تكشف سياسة اغتيال العقول العربية عن الطابع الإجرامى للاحتلال، فإنها تؤكد أن الصراع مع الاحتلال هو صراع عقول ومعارف ومختبرات ومعامل قبل أى شىء آخر. كما يكشف اغتيال المصدر عن أن العلوم الإنسانية والاجتماعية لا تقل أهمية عن العلوم الطبيعية والبحتة فى حماية الأمن القومى للدول، والحفاظ على مصالحها الوطنية، ودعم التحرير والتحرر من قوى الاستعمار القديم والجديد معًا.
شهد طوفان الأقصى ثانى أبشع حملة اغتيالات للعقول فى العالم العربى فى القرن الحادى والعشرين، بعد الحملة المتوحشة التى قتل خلالها الاحتلال الأمريكى أكثر من 5500 عالم عراقى عام 2003. فخلال الشهور العشرة الماضية قتلت إسرائيل عددا كبيرا من العلماء والباحثين فى غزة. وفى 16 مايو الماضى، نشر المكتب الإعلامى الحكومى بغزة قائمة تضم أكثر من 100 اسم لعلماء اغتالتهم إسرائيل فى غزة وحدها.
• • •
يضعنا الاستهداف المتعمد للعقول الفلسطينية والعربية أمام تحديات جمة. وأظن أن المهمة العاجلة هى تقديم الحماية للعلماء العرب، وإدانة جرائم الاحتلال، وفضحها، ومحاولة جلب مرتكبيها للعدالة. كما يتعين التعريف بمنجزات من تعرضوا للاغتيال، واستكمالها، وبناء ذاكرة حية تقاوم محاولات فرض النسيان عليهم وتشويههم. وأقترح فى هذا السياق عمل برامج توثيقية مصورة ومسموعة عن كل عالم قتلته إسرائيل، وإطلاق أسمائهم على دفعات التخرج فى الجامعات العربية، وقاعات الدرس، وتكريم ذكراهم، وعقد ندوات ومؤتمرات حولهم. وفى الحقيقة فإن إنعاش الذاكرة العربية بشأن سياسات الغرب الذى يتشدق بالحرية بينما يقتل أنبغ عقولنا يجب أن يكون أولوية لدى جميع البلدان العربية.
يضعنا واقع اغتيال العقول العربية الإسرائيلية للعلماء الفلسطينيين أمام حقيقة أخرى هى الازدواج الفاضح فى معايير الغرب تجاه حقوق الإنسان عمومًا، والعلماء خصوصًا. لكن قبل ذلك، يتعين التنويه بالمواقف النبيلة للطلاب الأساتذة الذين دشنوا حركة احتجاج واسعة عمت العالم فى الشهور الأخيرة، كما يجب التنويه بجماعات أكاديمية ذات مواقف نبيلة من القضايا الإنسانية مثل جماعة «أكاديميون من أجل العدالة»، التى تأسست للضغط على المؤسسات الأكاديمية التى تدعم الاحتلال فى بريطانيا. وعلى الرغم من تعرض هؤلاء الطلاب والجماعات لضغوط خسيسة من اللوبى الصهيونى الداعم للاحتلال فقد قاموا بدور مهم فى التعريف بحقيقة الاحتلال، وفضح جرائمه، ودعم حق الشعب الفلسطينى فى الحرية والاستقلال.
الأدلة كثيرة على ازدواج معايير بعض المؤسسات الأكاديمية الغربية من القضايا الإنسانية. ومع ذلك، فرغم وجود آلاف الروابط والجمعيات العلمية الغربية فإن أصواتًا قليلة هى التى نددت بحملة اغتيال علماء فلسطين، وأدانت تدمير الجامعات والمعاهد، ونددت بتوقف خدمات التعليم المقدمة لمليونى إنسان بسبب جرائم الاحتلال. وإذا قارنا موقف معظم هذه الجمعيات من الحرب بين أوكرانيا وروسيا والإبادة الجماعية فى فلسطين سيتبدى حجم افتقاد الضمير والمهنية والإنسانية لدى كثير من هذه الجمعيات البحثية. أقدم فى هذا المقال مثالًا فاضحًا على هذه الازدواجية المخجلة.
تأسست الجمعية الدولية للأدب المقارن (إيكلا) عام 1955، وتضم فى عضويتها باحثين فى حقل دراسات الأدب المقارن من أرجاء العالم. فى 4 مارس 2022، بعد أسبوع واحد من الحرب الروسية-الأوكرانية، أصدرت الجمعية بيانًا تضامنيًا مع الأكاديميين والمواطنين الأوكرانيين ونشرته فى موقعها، وتداولته مع وسائل الإعلام. فى هذا البيان عرفت إيكلا نفسها بأنها مؤسسة مكرسة للدراسة المسالمة للعديد من ثقافات العالم، ولغاته، وآدابه. وذكر البيان أننا نشعر بالحزن الشديد إزاء الحرب المأساوية فى أوكرانيا. إن الدمار الواضح وفقدان الأرواح، ومئات الآلاف من الناس الفارين عبر الحدود يؤثر علينا جميعًا - الأوكرانيون بشكل أعمق، وجيرانهم المقربين فى أوروبا وآسيا، وكل إنسان فى العالم يبنى حياته على المثل العليا للحرية والسلام. وبلغة صريحة أعلن البيان «عن تضامننا مع جميع الأكاديميين الأوكرانيين وطلاب الجامعات، وكذلك جميع المواطنين والمقيمين الأوكرانيين. ونقف أيضًا مع هؤلاء الشعوب فى كل مكان الذين يعانون من الحرب أو الخوف أو القمع. نحن نؤمن بقوة الكلمات وسلطتها، ونعمل كمؤسسة لدعم السلام الفورى والقانونى والدائم».
هذه الكلمات البراقة النبيلة المفعمة بالإنسانية، والقيم الرائعة التى تبنتها الجمعية، والقناعات النبيلة التى صورت نفسها أنها تتمتع بها، تلاشت، كأنها لم تكن موجودة، حين تعلق الأمر بفلسطين. فالجمعية التى وصفت نفسها بأنها تقف مع الشعوب التى تعانى من الحرب أو الخوف أو القمع لم تصدر حرفًا واحدًا عن الإبادة الجماعية فى غزة. والجمعية التى تعمل كمؤسسة لدعم السلام الفورى والقانونى الدائم لم تدنُ بكلمة حملة اغتيال العلماء الفلسطينيين، ضمن أكثر من 40 ألف فلسطينى قتلهم الاحتلال، علاوة على مئات آلاف المهجرين والمشردين. لقد كشفت غزة عن ازدواج صارخ فى المعايير، وانكشاف كامل للغطاء الأخلاقى والمهنى للجمعية الدولية للأدب المقارن ومثيلاتها فى العالم الذى يصف نفسه بأنه حر تنويرى، فى حين يمارس أبشع الجرائم ضد الإنسانية فى كل مكان، وعلى رأسها اغتيال العقول.

أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved