لم أصدق أذنى وأنا فى الجلسة الختامية لمنتدى ريمينى فى إيطاليا حين وجدت الكاردينال بارولين أحد مساعدى بابا الفاتيكان وربما يكون هو الرجل الثانى فى هذه المؤسسة بما لها من وزن روحى فى العالم يستعمل مفردات الناقد الالمانى الشهير تيودور فون أدرنو لمسرحية فاوست لشاعر الالمانية الأشهر جوتة.
ويعرف البعض أن ادرنو ربما يكون هو أحد ألمع نقاد القرن العشرين والناقد الأهم فى مدرسة فرانكفورت التى أحدثت تحولا فى علم اجتماع الأدب وفِى علم النفس الاجتماعى ومهدت لميلاد الدراسات الثقافية، ليس هذا فقط وإنما هو أيضا الرجل الذى حين أراد أن يحدد مواقفه تجاه المؤسسات قال: (لقد تعلمت أن أغادر الكنيسة) معلنا بذلك خروجه على التقاليد السائدة.
وبالتالى فهو فى عرف بعض رجال الدين مجرد ناقد مارق، ومع ذلك استشهد بكلماته أحد أبرز الاشخاص تأثيرا فى مؤسسة الفاتيكان ومرر خطابه النقدى أمام ما يقرب من ٣٠٠٠ مشارك وفِى جلسه عامة تنقلها الشاشات وصحفيون من ٤٠٠ وسيلة إعلامية حول العالم .
لم يخف ممثل الفاتيكان من استعمال قراءة ادرنو لفاوست بل أبدى إعجابه بها وانتقل منها لتناول إشكالية الزمان والمكان وعلاقتها بمفهومى السلطة والتأويل.
ولوهلة شعرت أننى لا استمع لرجل دين، بل لفيلسوف منشغل بقضايا السرد وتأويل التاريخ وربما شعرت أنه كان قبل دخول الفاتيكان أحد تلامذة بول ريكور الأب الروحى للرئيس الفرنسى ماكرون أو لميشيل فوكو وهو فى ذروة مجده خاصة، فالكاردينال أنفق نصف كلمته فى الحديث عن ضرورة إدماج اللاجئين والمهاجرين فى المجتمع الايطالى والاوروبى بشكل عام وهو نفسه من ركز على حاجة المجتمعات المعاصرة للعدالة الاجتماعية فهى وحدها التى توقف الحرب.
وبدا لى طوال خمسة أيام من الاستماع لمداولات ونقاشات مفكرين أوروبيين ورجال دين مدى الانشغال بطرح التساؤل عن مكانة الدين فى المجتمعات المعاصرة؟ وهو انشغال ذكرنى بكتاب الصديقة د. هبة شريف (دينى ودين الناس / دار العربى للنشر والتوزيع 2017) وأكد الكثير من صحة استنتاجاتها المثيرة عن الحداثة والعلمانية فى الغرب، وصعوبة محاولات عزل الدين عن المجال العام فى هذه المجتمعات، فالدين كما رأيت فى ملتقى (ريمينى) ما زال يمثل ركيزة من ركائز الهوية حتى فى المجتمعات الغربية نظرا لوجود مهاجرين متدينين ينتقلون لهذه المجتمعات محملين بأفكار وقيم ومعتقدات دينية بالأساس، أما فى المجتمعات العربية الإسلامية فما زال سؤال الحداثة يطرح علينا، وحين يكون الأمر متعلقا بالدين يكون السؤال: هل الإسلام سبب تأخر بلاد المسلمين؟ وهل فصل الدين عن الدولة أو العلمانية هو السبب الأساسى فى تطور المجتمعات الغربية؟
فى حقيقة الأمر من الصعب تقديم إجابة يطمئن لها أى طرف لكن ما يمكن لى توضيحه والإلحاح عليه من واقع حواراتى مع مفكرين وعلماء ورجال دين أن مخاوف هبة شريف من انتقال الدين من مشروع تحرر يعلى من قيمة الفرد إلى مشروع استحواذى تطبقه الرأسمالية هى مخاوف صحيحة بالتأكيد، لذلك يسعى مفكرو الكنيسة إلى (فرملة) هذا التحول بالإلحاح على خطاب العدالة الاجتماعية ودعمه لمواجهة قيم الاستغلال والاستحواذ.
واليوم يعمل الفاتيكان فى المرحلة الحالية على إنتاج (مسيحية جديدة) ــ إن جاز التعبيرــ يصعب فصلها عن تطور العقل الغربى الذى قطع شوطا طويلا باتجاه المستقبل، مسيحية تتجدد أمام واقعها ولا تنفصل عنه ويستثمر رجال الفاتيكان الآفاق التى خلقها وجود البابا فرنسيس لإظهار أثمان هذا التحول ويتفاعلون معها.
اليوم تخاف مؤسسات الحداثة الغربية وعلى رأسها الفاتيكان على مجتمعاتها من داعش مثلما نخاف نحن أيضا، لكن رجالها الذين استمعت إليهم وحاورتهم لا يشبهون رجال الدين عندنا، فهم مشغولون بالتأويل ولا مشكلة لديهم مع الخيال أو الإبداع أو الجنس، ولا يقضون أيامهم فى ستوديوهات الفضائيات فهم ليسوا من هواة المتاجرة فى الفتوى، لأن مجتمعات أوروبا والدول المتقدمة وضعت منذ سنوات طويلة أداة ضابطة لتنظيم كل هذه التفاعلات تحت مظلة القانون ولا شىء سواه، لذلك من الطبيعى جدا فيها أن يستمع رجال دين لمحاضرة يقدمها عالم لغة بارز مثل أندريه مونرو عن العلاقة بين اللغة وعمل المخ تستمر لنحو ساعتين دون مقاطعة من أحد أو سؤال فى غير مكانه.