البصرة تحترق

شيرين شمس الدين
شيرين شمس الدين

آخر تحديث: السبت 29 سبتمبر 2018 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

تتلاحق مجموعة من الصور فى الأذهان حينما نتحدث عن حال البصرة فى الأشهر الأخيرة: ألسنة اللهب تلتهم مجموعة من الأبنية الحكومية، صنبور مياه تغطيه كتل من الملح المتحجر فى منزل بصراوى، الأهالى يشيعون جنازات «شهداء الحقوق» من ضحايا التظاهرات، شباب يقطعون شوارع البصرة رافعين لافتات «نريد وطن» و«هيهات منا الذلة»، فمنذ ثلاثة شهور يتظاهر أهل البصرة لتردى الأحوال المعيشية وغياب الخدمات الأساسية وفرص العمل، منددين بضعف وفساد الحكومة.
لعل المفارقة أن ٨٠٪ من دخل العراق يعتمد على النفط والغاز المستخرج من البصرة، ميناء العراق الوحيد الذى يحتوى على ٥٩٪ من الاحتياطى النفطى العراقى، بينما لا تزيد حصة البصرة عن ٥٪ من الموازنة العراقية وتعانى المحافظة من انهيار تام للبنية التحتية. المحافظة ضحية فساد وإقصاء الحكومات المتتالية، خاصة الحكومة الأخيرة، برئاسة حيدر العبادى، التى قررت حرمان البصرة من حصتها من أرباح استخراج وتصدير النفط والغاز بحجة اتباع سياسات تقشفية. لذا صارت تظاهرات البصرة طقسا صيفيا فى السنوات الأخيرة، إذ تتجاوز درجات الحرارة الخمسين درجة مئوية، فى ظل انقطاع الكهرباء حوالى ١٥ ساعة يوميا، إضافة إلى نقص المياه وارتفاع نسبة ملوحتها وتلوثها، هذا إن وجدت.
رصدت المفوضية العليا لحقوق الإنسان فى البصرة ٧٠ ألف حالة تسمم خلال عام ٢٠١٨، نتيجة ملوحة وتلوث المياه التى تصل المنازل، فضلا عن الإصابة بأنواع السرطان المختلفة من جراء الانبعاثات السوداء السامة من حقول النفط العملاقة. وإلى جانب الظروف المعيشية الصعبة، تعانى البصرة من ارتفاع معدلات البطالة فى ظل انعدام المشروعات الجدیدة التى من شأنها أن تستوعب أعداد الشباب المتعطل، ومن انحسار الزراعة واستیلاء شركات النفط الأجنبیة على الأراضى الزراعیة ومزارع النخيل بوصفھا «محرمات نفطیة» تخصص لاستخراج النفط.
***
تتحمل الجارة إيران، التى تشارك البصرة حدودا طويلة، قدرا لا يستهان به مما آلت إليه الأوضاع البيئية فى المحافظة. قامت إيران خلال العشر سنوات الماضية ببناء سدود وقطع روافد وتغيير مسارها بشكل أحادى الجانب، فخسر العراق نحو ٨٠٪ من مصادر المياه واختلت نسبة المياه العذبة التى كانت تصل سنويا شط العرب (ملتقى نهرى دجلة والفرات الذى يمر بالبصرة)، بل واستخدمت إيران الروافد الجافة للتخلص من مياه الصرف المالحة لتزيد مشكلة ملوحة المياه الأزلية فى البصرة وتصل بذلك نسبة الملوحة إلى معدلات مميتة. تمت كل تلك الممارسات على مرأى ومسمع من الحكومات العراقية منذ ٢٠٠٣ التى نظرت للبصرة باعتبارها مجرد بئر نفط ولم تكترث لمعاناة أهلها أو حتى لمستقبل العراق الذى سيصبح بلا أنهار بحلول عام ٢٠٤٠.
فى يونيو ٢٠١٨، قامت إيران بقطع خط الكهرباء الذى يغذى البصرة بحجة أن العراق لم يدفع مستحقاته المالية وتراكمت مديونيته، فكانت هذه القشة التى قسمت ظهر البعير والتى اندلعت بعدها انتفاضة البصرة الحالية. وعلى أغلب الظن كان قطع الكهرباء مناورة من إيران لينتفض أهل البصرة ضد رئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادى (حليف واشنطن)، مما يحول دون توليه ولاية ثانية، وتفشل بذلك خطط الولايات المتحدة فى العراق. لكن غضب المتظاهرين طال الجميع بمن فيهم إيران، فأحرقوا مبنى محافظة البصرة وأبنية حكومية أخرى، ومقرات الأحزاب والميليشيات، وكذلك مقر القنصلية الإيرانية بالبصرة مرددين: « إيران بره بره، البصرة تبقى حرة ».
***
لم تجد السلطات العراقية سوى الحل الأمنى لتخفيف وتيرة الاحتجاجات، فنوعت أساليب القمع (قتل بالرصاص الحى، اعتقالات وتعذيب المتظاهرين) وحملات تشويه الناشطين. كذلك قام العبادى بإطلاق بعض الوعود الزائفة مثل خلق عشرة آلاف وظيفة جديدة لشباب البصرة، مع أنه يعرف جيدا أن موازنة ٢٠١٨ لن تسمح بذلك، كما أرسل وفدا للتفاوض مع السعودية لتوفير الكهرباء للعراق بسعر أقل من إيران عن طريق إنشاء محطات للطاقة الشمسية خلال عام. وقد أقيل وزير الكهرباء العراقى بعد هذه الزيارة ولم نسمع عن أية اتفاقات فعلية بين البلدين. وأخيرا تم اقتراح إنشاء سد على شط العرب للحد من تدفق اللسان الملحى.
بالطبع لا توجد حلول قصيرة الأجل لمشاكل البصرة، لكن كل ما سبق هو مجرد تصريحات إعلامية لامتصاص غضب المتظاهرين وخلق حالة من التشرذم على أمل أن تنتهى المظاهرات كسابقتها مع حلول فصل الخريف.
قد تسىء السلطات العراقية التقدير هذه المرة، فقد فاض الكيل بأهل البصرة الذين رددوا «باسم الشعب وباسم الدين بكتونا (سرقتونا) مرة ومرتين، منا الحرامى وانكشف شفنا بعد شوف العين (…) عوفو (اتركوا) الخطب والتشفير قد حان وقت التغيير». أخذت الاحتجاجات منحى مختلف وتجاوزت الخطوط الحمراء، فقام المحتجون بمحاصرة حقول النفط وأغلقوا الموانئ والمنافذ الحدودية وطرق التجارة، وطالب البعض بالتحول إلى إقليم يتمتع بحكم ذاتى على غرار كردستان أو بالانفصال عن العراق. لا يمكن التنبؤ بما قد يحدث مستقبلا، لكن الواضح للعيان أن البصرة التى عرفت فى القرن الماضى ببندقية الشرق، لما يمر بها من قنوات تحولت اليوم إلى مكبات للنفايات، تموت عطشا، تختنق وتحترق، فحذارى أن يحترق معها العراق بأكمله.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved