لكل جديد لذة.. وعدو
عماد عبداللطيف
آخر تحديث:
الخميس 29 سبتمبر 2022 - 6:15 م
بتوقيت القاهرة
«لكل جديد لذة»، هذا قول شائع. و«لكل جديد عدو» هذا قول حقيقى.
حظى العقاد المفكر والناقد والصحفى والروائى والسياسى بمكانة استثنائية مستحقة بين نظرائه فى حياته وبعد مماته. لكن العقاد الشاعر لم يحظ بالمكانة نفسها بين الشعراء، لا فى جيله، ولا الأجيال اللاحقة. وقليلا ما تُعدُ دواوين العقاد الشعرية جزءا من التاريخ الحى للشعر العربى. ذاك التاريخ الذى لا يعترف بمعيار الانتشار فى زمن إنتاج الشعر، بل يحكمه غالبا معيار القيمة. هذا التاريخ الحى للشعر العربى يخلِد شعراء لم يحظوا فى حياتهم بمكانة مرموقة مثل محمود حسن إسماعيل وأمل دنقل، ويُقصى آخرين سعوا بكل ما يستطيعون أن يملئوا الدنيا ضجيجا.
بحسب عبارة منسوبة لنجيب محفوظ، فإن «العقاد الشاعر» لم يترك أثرا يُذكر فى أجيال الشعراء المحدثين. ومع ذلك، كان يرأس أهم مؤسسة مسئولة عن الشعر فى العالم العربى تقريبا فى ذلك الزمان؛ هى لجنة الشعر فى المجلس الأعلى للفنون والآداب بمصر. وهى اللجنة التى كانت تمنح جوائز الشعراء، وتنظم فعاليات الشعر ومهرجاناته، وتقبل أو ترفض نشر بعض الأعمال المحالة إليها للتقييم، وغيرها من مهام.
• • •
كان العقاد يزدرى الشعر الحر، ويستهزئ بشعرائه. وحين يتقدم شاعر منهم ــ مثل صلاح عبدالصبور أو أحمد عبدالمعطى حجازى أو عبدالرحمن الشرقاوي ــ بديوان إلى لجنة الشعر بهدف النشر أو التنافس على جائزة، كان العقاد يكتب على غلاف الديوان عبارته الشهيرة «يُحال إلى لجنة النثر»، ويرسله إلى لجنة النثر بالمجلس الأعلى، الذى يعيد إرسال الديوان مرة أخرى إلى لجنة الشعر فى سلوك عبثى ساخر. ولم يكن هذا هو الشكل الوحيد لإيذاء شعراء التفعيلة بل كان يحول دون قبول طباعة أعمالهم فى المؤسسات الرسمية التى تأخذ بتوصياته، ويمنعهم من المشاركة فى المهرجانات الشعرية التى تنظمها لجنة الشعر. ومن الطريف المبكى أن العقاد هدَد بتقديم استقالته من رئاسة لجنة الشعر ذات عام، حين علم أن وفد شعراء مصر إلى مهرجان دمشق الشعرى سيضم ثلاثة من شعراء التفعيلة!
كان العقاد يتخذ هذا الموقف العدوانى الشرس من الشعر الحر دون أن يقرأ سطرا واحدا منه. فبحسب الأستاذ رشاد كامل فى مقال منشور بمجلة صباح الخير، فإنَ صحفيا سأل العقاد:
ــ هل قرأت الشعر الحديث؟
احمرَّ وجه العقاد، وانتابته ثورة الغضب، واحتد صوته، وقال للصحفى:
ــ قرأت ماذا؟ هل تريد منى أن أقرأ الكلام الفارغ الذى يكتبه البتاع اللى اسمه «صلاح عبدالصبور»؟! إننى أتحدى «عبدالصبور» هذا أن يقرأ عشرة أسطر من النثر دون أن يُخطئ فى تشكيل أو نطق بعض كلماتها!.
• • •
إنْ ما عاناه صلاح عبدالصبور وأبناء جيله من بطش العقاد والمناصرين له، يعانيه أكثر المبدعين فى شتى المجتمعات، لا سيما فى أعمالهم المبكرة. فإن لم يكن المبدع أو المبدعة مدعوما بمؤسسة أو سلطة أو جماعة تدافع عنه، طال طريق المعاناة، لا سيما إن تعلق الأمر بعالم إنتاج الأفكار فى حقل العلوم الإنسانية. فالمؤسسات التى ترعى إنتاج الأفكار فى عالمنا الراهن، أعنى الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث، غالبا ما تكون مُغرقة فى التقليد. والباحث الذى يتحدى الأفكار السائدة فى مجال تخصصه محكوم عليه بالمعاناة. إنْ كان طالبا فى مرحلة الدكتوراه، فإنه يحتاج إلى مشرف يتفهم اختلافه، ويشجع مغايرته لنظرائه فيما يقدم من موضوعات وأفكار وإسهامات. وقلَما يوجد هذا النوع من الأساتذة المشرفين. فإن أراد أن يناقش رسالته، فإن التقييم العادل للرسالة يتطلب أن تُناقَش بحياد وموضوعية، وأن يتفهم مناقش الرسالة أن من حق الطالب نقد ما ألفه الأستاذ من معرفة نقدا جذريا، إن أراد أن يقدم ابتكارا حاسما فى مجال تخصصه الدقيق، وقليلٌ منهم منْ يفعلون. فإن حصل الطالب على درجته العلمية وسعى لنشر أعماله فإن محكمى المجلات العلمية ودور النشر عادة ما يكونون من أجيال سابقة، لديهم تصورات شبه مستقرة للمعرفة، قلة منهم تدعم ما يخالفها أو يناقضها، وأغلبيتهم يرفضونها ويهاجمونها. فإن سعى إلى الحصول على مكافأة عن عمله فى شكل جائزة أو تكريم، هاجمه الحراس التقليديون لبوابات التقدير والإنجاز. وإن سعى لترقية أو وظيفة وجد من يرفضون عمله دون أن يُلقوا عليه نظرة لأنه غريب عن دراسات الاختصاص كما يعرفونها. وتكون قد انقضتْ أعمار قبل أن يحظى عمل المجدِد بالتقدير والانتشار الملائمين. لا سيما فى المجتمعات التقليدية، التى تقاوم التجديد، ولا تتقبله إلا بعد جهد جهيد.
عايشتُ خلال العقود الماضية بعض الخبرات الشبيهة بما جرى بين العقاد وعبدالصبور. فقد رأيتُ كيف يحاول بعض الأكاديميين تقييد تطلعات بعض الباحثين المجددين فى البلاغة العربية، وهدم أعمالهم. بالطبع فإن من حق كل جيل الدفاع عن ممارساته الأكاديمية المعتادة. كما أنه من الضرورى نقد وتفنيد أية ادعاءات علمية غير رصينة. فليس التجديد قيمة فى ذاته، بل أداة للوصول إلى معرفة أكثر كفاءة وفاعلية وفائـدة وإتقان ورصانة. لكن المؤسف أن حال أكثر رافضى التجديد كحال العقاد تماما؛ يهاجمون ما لا يقرأون، ويعادون ما لم يطلعوا عليه، ويحاولون تدمير من يكتب ما لا ينسجم مع ميولهم ونزعاتهم، ولا يتورعون عن استعمال أساليب غير علمية ولا إنسانية فى هدمه.
• • •
رحل العقاد، ورحل عبدالصبور. لم يعد أحد يقرأ شعر العقاد تقريبا. فى حين أصبح صلاح عبدالصبور وأمل دنقل وغيرهما من شعراء التفعيلة جزءا من ذاكرة الشعر الحيَة، ويعدُهم الكثيرون على رأس قائمة أهم شعراء مصر فى العصر الحديث. ولو استسلم شعراء التفعيلة لهجمة العقاد والجيل الذى كان يناصره، وانكسروا أمام بطشه بهم، لخسر الشعر العربى بعض أهم منجزاته على مدى التاريخ. لكنهم استمدوا من لذَة الإبداع، وإدراك المبدع لمسئوليته نحو عمله ومجتمعه، وتقدير قلةٍ من العارفين زادا يعينهم على تحمل الأذى، بعد أن أدركوا أن لكل جديد عدوا، وأن الزمن خير منصف للمبدعين.