مصر التى فى خاطرهم


علاء عبدالعزيز

آخر تحديث: السبت 29 أكتوبر 2011 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

دخل بليسينجز شينسينجا أستاذ السياسات العامة مدرج الكلية فى جامعة مالاوى صبيحة أحد أيام فبراير الماضى، وبادر الطلاب بالسؤال التالى: هل تتابعون ما يفعله الشعب المصرى العظيم بمختلف شرائحه وعلى امتداد مدنه للتخلص من الحكم الديكتاورى وسيطرة رأس المال الفاسد على السلطة؟ وعندما أومأ أغلب الطلب برءوسهم دليلا على متابعتهم للثورة المصرية، علق الأستاذ: عليكم أن تسألوا أنفسكم لماذا ثار المصريون؟ عندها ستشعرون بالخجل لأنهم ثاروا لتغيير أوضاع وانتهاكات نقاسى منها هنا فى مالاوى مثلما يعانون.. ألم يرفع المصريون منذ اليوم الأول للثورة شعار الخبز ضد نظام أفقرهم؟ ألم يطالبوا بعدالة اجتماعية فى مواجهة نظام انتهج سياسات تنزح القليل الذى بحوزة الفقراء لتضعه فى جيوب القلة الأكثر ثراء؟ ألم يرفضوا معدلات النمو الاقتصادى العالية ما دامت لا تنعكس فى صورة خدمة صحية وتعليمية آدمية لجموع الناس؟ ألم ينتفضوا ضد الاحتكار والقمع والتعذيب؟ سؤالى إليكم: اذا كنا شركاء للشعب المصرى فى تفاصيل المعاناة، فلماذا لا نشاركهم طريق الثورة؟

 

وما إن انتهت المحاضرة حتى تطوع أحدهم بإبلاغ سلطات الأمن بمضمونها، فوقع استدعاء للاستاذ الذى خضع للتحقيق والاحتجاز لدى الشرطة بتهم من بينها تكدير الأمن العام وتهديد السلم الاجتماعى وتعريض الأمن القومى للبلاد للخطر، وانتهى التحقيق إلى الإفراج عن الأستاذ مع فصله من الجامعة لحرمانه من بث سمومه بين الطلاب، واستدعى ذلك اعتراضا من بعض الطلبة وأعضاء هيئة التدريس، فتم فصل ثلاثة آخرين من الأساتذة وحل اتحاد الطلاب، عندئذ اندلعت مظاهرات واحتجاجات حاشدة داخل الجامعة وخارجها مطالبة السلطات باحترام الحرية الأكاديمية وإعادة الأساتذة المفصولين إلى وظائفهم وتقديم الاعتذار اللائق إلى شينسينجا، وكانت تلك هى اللحظة التاريخية التى تدخل فيها رئيس الدولة رافضا إعادة المفصولين وساخرا من دعوات الاعتذار ومعلنا اغلاق الجامعة تماما والى أجل غير مسمى (ما زالت مغلقة منذ فبراير وحتى الآن)، مؤكدا أنه يريد من كل مواطن أن يفهم جيدا أن مالاوى ليست مصر.

 

...

 

تلك القصة تلخص منذ بدايتها (محاضرة الأستاذ) وحتى نهايتها (تأكيدات الرئيس) طبيعة «المكانة» التى تشغلها مصر فى الوعى الأفريقى، وهى مكانة أثبت الأفارقة دوما حسا عاليا فى اداركها تماما مثلما تثبت النخبة المصرية يوما بعد يوم جهلها الشديد بأبعادها. فمصر لا تمتلك حضورا عسكريا يؤهلها لأن تكون شرطى القارة، تزجر المعتدى وتحرر الضحية، كما أنها ليست عملاقا اقتصاديا لتكون قاطرة التنمية فى القارة، فتمنح هذا وتقرض ذاك، ما تملكه مصر (وهو ليس قليلا ولا سهلا) هو تلك البصيرة التى تجعلها تقف فى مكان ما على ظهر السفينة، وتشير إلى المسار فيصدقها الأفارقة ويحركون الدفة فى الاتجاه الذى أشارت إليه.

 

هذا بالدقة هو مكمن النجاح الذى حققته مصر الخمسينيات والستينيات على الساحة الأفريقية، أدركت أن ساعة التحرر الوطنى دقت فقدمت النموذج الأروع فى التحرر عندما أممت قناة السويس وقاومت عدوانا لم يستهدف استعادة السيطرة على القناة بقدر ما استهدف ضرب النموذج للحيلولة ضد انتشاره، لاحظت استقطابا دوليا متزايدا فدشنت زخما دوليا يدافع عن فكرة ألا كرامة لمن دار فى فلك أحد القطبين، دافعت عن مفهوم للتنمية يحارب استغلال رأس المال وينحاز للطبقات الفقيرة، فهمت ما بين الاستعمار والصهيونية من رباط عضوى فقاومت كلاهما على ذات خط النار. وفى كل خطوة على هذا الدرب ضبط الأفارقة بوصلتهم صوب القاهرة.

 

لو قارنت ذلك بالكيفية التى ادارت بها مصر علاقتها مع أفريقيا خلال العقود الأربعة الماضية فستجد أن فكرة «النموذج» توارت لتفسح المجال لعنوانين لا يزيد أحدهما عن الآخر إلا فى مقدار الحماقة. العنوان الأول يمثل عين الحق الذى يراد به باطل وبمقتضاه قيل لنا أن جوار مصر وعمقها الأفريقى غربا وجنوبا ليس مسألة علاقات سياسية بل قضية أمن قومى، وما كان ذلك إلا ستارا لتغييب السياسة وتغليب النظرة الأمنية على علاقاتنا بليبيا والسودان وبلدان حوض النيل، وعندما تغيب السياسة بعد أن اختفى «النموذج» فلا ينبغى أن يدهشنا تذبذب العلاقة مع الجار الغربى وتوترها مع السودان جنوبه وشماله واثيوبيا وكينيا وأوغندا.. إلى الحد الذى يتحول فيه نهر النيل من سبب للتعاون إلى مسوغ للشقاق. واذا أردت مثالا عمليا فقارن بين مستوى الحفاوة ومبادرات حسن النوايا التى قابلت بها إثيوبيا الوفد الشعبى الذى زارها بعد الثورة، بالكيفية التى قابلت بها أديس أبابا الوفد الذى ترأسه الدكتور عصاء شرف، لتعرف أن مصر الرسمية ذات الوجه العسكرى/الأمنى (حتى بعد الثورة) ليست مقبولة فى أفريقيا. ولو أردت دليلا آخر على غياب السياسة فانظر إلى حجم المرارة فى قلوب الليبيين وعقول أعضاء المجلس الوطنى الانتقالى من تخاذل مصر ذات الوجه العسكرى/ الأمنى عن نصرة ثورتهم الباسلة.

 

أما العنوان الثانى فهو القول بأن الاقتصاد هو المدخل الصحيح لاستعادة مصر ريادتها فى أفريقيا، وتلك خرافة يسكنها تغليب المصلحة الخاصة على الصالح العام، فمع انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادى فى مصر على مدى العقدين الماضيين، فإن المعنى الحقيقى للمدخل الاقتصادى إلى أفريقيا يعنى تسخير جهود الدولة لفتح أسواق أفريقيا أمام استثمارات القطاع الخاص المصرى. وقد يتساءل البعض وما الضير فى ذلك؟ تعلمنا خبرة الاستثمارات الغربية فى أفريقيا فى قطاعات النفط والتعدين والاستثمارات الصينية فى قطاعات التشييد والبناء، أن تلك الاستثمارات لم تجلب على وجه الحصر إلا سخط المواطن الأفريقى، لأنها وضعت نصب أعينها مراكمة الأرباح ونزحها مع ما يتيسر من موارد القارة إلى البلدان التى جاء منها هؤلاء المستثمرون، دون أن ينعكس نشاطهم الاقتصادى بالايجاب على المواطن الأفريقى البسيط. بعبارة أوضح فإن وجود مستثمر مصرى فى أفريقيا مستغلا التدنى غير الإنسانى لتكلفة قوة العمل ومعمقا الفساد المستشرى فى أجهزة الدولة ومحولا أرباحه إلى الخارج، يضرب الصورة الذهنية لمصر «النموذج» فى مقتل بدلا من استعادتها. فإذا أضفت إلى ذلك حجم المرارة المتزايد الذى يشعر به الأفارقة عندما يلاحظون كيف تنأى مصر (بوصفها دولة رجال الأعمال) بنفسها فى المحافل الاقتصادية الدولية عن الدفاع عن المصالح الأفريقية، فستعلم إلى أين يقودنا «المدخل الاقتصادى» على الساحة الأفريقية؟

 

ملحمة نضال بليسينجز شينسينجا تعلمنا أن ثورة 25 يناير أحيت الأمل فى استعادة مصر لدورها الغائب فى قارتها، لكن ذلك يبقى مشروطا بقدرتنا على الحد من هيمنة العقلية الأمنية والتوقف عن التفكير بذهنية رجال الأعمال لدى صناعة السياسة الخارجية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved