ما الذى قد يحدث فى حال أقامت السعودية علاقات رسمية مع إسرائيل؟
من الفضاء الإلكتروني «مدونات»
آخر تحديث:
الخميس 29 أكتوبر 2020 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
نشرت مدونة الديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا للكاتبة ياسمين فاروق.. نعرض منه ما يلى.
تمارس إدارة الرئيس الأميركى دونالد ترامب ضغوطا شديدة على المملكة العربية السعودية لتنضم إلى قافلة الدول العربية التى وقّعت اتفاقات من أجل تطبيع العلاقات مع إسرائيل. لكن الرياض قد لا تقرّر المضى قدما فى هذه الخطوة، على الأقل ليس بعد. صحيحٌ أن الاتفاقات التى وُقِّعت مؤخرا بين إسرائيل وعددٍ من دول الخليج نالت تأييدا فى صفوف وسائل إعلام سعودية وأمراء ورجال رسميين، ما يشى بتحوّل تدريجى ومستمر فى مقاربة المملكة لهذه القضية. لكن الخطاب الذى ألقاه العاهل السعودى الملك سلمان بن عبدالعزيز أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 23 سبتمبر 2020 أظهر مقاربة أكثر تقليدية. أتى هذا الخطاب بعد سلسلة من التصريحات السعودية الرسمية الرامية إلى وضع شروط حول إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل، على أساس بنود «مبادرة السلام العربية وقرارات الشرعية الدولية».
سلسلة من الوعود المشكوك فيها
إن إضفاء طابع رسمى على العلاقات السعودية ــ الإسرائيلية من شأنه أن يساعد كلتا الدولتين على تحقيق أهداف استراتيجية وعسكرية. لكن، إذا ما نجحت السعودية وإسرائيل فى إقامة علاقات رسمية، فلن يفضى ذلك بالضرورة إلى تحولات جذرية كما يزعم الجانبان. لا بل واقع الحال أن هذه التحولات قد لا تصب فى صالحهما. ثمة ستة أهداف كبرى يعتبر مناصرو الاتفاق أنه سيحققها، لكنها تبدو فى الحقيقة بعيدة المنال.
أولا، التطبيع لن يحقق السلام أو الاستقرار فى الشرق الأوسط. يجادل مؤيّدو شكل من أشكال التطبيع الإسرائيلي ــ الخليجى بأن هذا الاتفاق سيحقق السلام الإقليمى فى «أقل مناطق العالم سلاما». لكن اتفاقيات التطبيع العربية الأخيرة لن تعالج «مكامن الضعف الأساسية» التى تتسبّب بالعنف واللا استقرار فى المنطقة. فى العقد المنصرم، شهدت غالبية الدول العربية تظاهرات ضد الحوكمة الفاسدة والقمعية. وانسحب ذلك أيضا على إسرائيل وفلسطين. وقد تخلّل الكثير من هذه التظاهرات لجوء الدول إلى العنف، لكن لم يتم التصدّى للتفاوتات الاجتماعية العميقة التى أطلقت شرارة الاحتجاجات وحرّكتها، إلا فى حالة تونس نسبيا. الحقيقة أن الأنظمة العربية بحاجة إلى الدعم الأمريكى والإسرائيلى لاحتواء اللا استقرار فى المنطقة، وليس لإنهائه.
على الرغم من صورة السلام التى ترسمها اتفاقيات التطبيع الأخيرة، تتوقع السعودية من الولايات المتحدة وإسرائيل تعزيز تعاونهما الدفاعى والأمنى معها، ومن واشنطن غضّ الطرف قليلا عن مسألة الاستخدام النهائى للأسلحة الأمريكية. ومن أجل الدفاع عن نفسها فى وجه الاعتداء الإيرانى، يمكن للمملكة حتما الاستفادة من هذا التعاون المعزّز ومن خبرة إسرائيل فى الحروب غير النظامية. لكن سجلَّ كلٍّ من إسرائيل والسعودية إشكاليٌّ للغاية فى هذا النمط من الحروب. لذا، هذا النوع من التعاون لا يبشر بتحقيق السلام.
ثانيا، قد لا يصب الاتفاق الإسرائيلي ــ السعودى بالكامل فى صالح الولايات المتحدة، لأن الجانبين يريدان من واشنطن تدخّلا فى الإقليم يفوق نطاق صلاحياتها. فلدى الجانبين الإسرائيلى والسعودى مصلحة فى أن تبقى واشنطن قوة عسكرية مهيمنة بشكل نشط فى المنطقة، وبالتالى يريدان تفادى خفض القوات العسكرية الأمريكية فى الشرق الأوسط أو التحوّط من هذا السيناريو المحتمل.
يودّ كلٌّ من المملكة وإسرائيل أن تستخدم الولايات المتحدة تفوقها العسكرى لإلحاق الهزيمة بالتهديد الإيرانى. فالجانبان يسعيان بشكلٍ نشط من أجل إبرام اتفاق أميركي ــ إيرانى شامل يصعب تحقيقه، يخلط بين الأولويات الأمريكية المتمثلة فى وضع حد للبرنامج النووى الإيرانى ووقف اعتداءات طهران على المصالح الأمريكية من جهة، وبين مواجهة المدّ الإيرانى الجيوسياسى الأوسع فى المنطقة، من جهة أخرى.
ما ترغب به إسرائيل والسعودية هو أن تظل واشنطن منخرطة بشكل نشط فى الحرب على الإرهاب فى الشرق الأوسط. وفى الوقت نفسه، يعمد كلٌّ من إسرائيل والسعودية على توطيد علاقاتهما مع منافسين استراتيجيين للولايات المتحدة كروسيا والصين. وحتى الآن، لا يزال هذا التعاون محدودا ومحصورا بالشق الاقتصادى فى الغالب، غير أنه لا يتّسم دائما بالشفافية ويمكن أن يتحوّل إلى تعاون استخباراتى وعسكرى أوسع.
فى هذا الإطار، تأمل واشنطن بإعادة توزيع العبء الدفاعى على شبكة دفاعية أكثر تكاملا من الحلفاء الإقليميين. لكن لا إسرائيل ولا السعودية تملكان القدرة على تولى قيادة الإطار الأمنى الإقليمى الذى تطمح له واشنطن. فإضافةً إلى انعدام الثقة والمنافسة المتجذرين فى المنطقة، لا تتفق معظم الدول مع الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل فى كيفية التعامل مع إيران.
ثالثا، ما من دليل دامغ على أن الشعب السعودى موافق على هذه الخطوة. لكن ثمة سردية سعودية جديدة تصوّر التطبيع مع إسرائيل كجزء من الدولة السعودية الجديدة المعتدلة قيد الإنشاء.
فى المقابل، لم تطالب الأطراف الاجتماعية الفاعلة فى المملكة بإقامة علاقات مع إسرائيل بالطريقة نفسها التى طالبت فيها بتطبيق إصلاحات أخرى، على غرار تمكين المرأة أو حتى مكافحة الفساد. علاوةً على ذلك، ليست فلسطين مسألة تتداخل فيها اعتبارات سياسية عليا وحسب، بل هى أيضا موضوع نقاشات عامة، وتعبئة شعبية سابقا.
مثل هذه الخطوات التى لا تحظى بدعم شعبى تشوّه الخطط الاجتماعية والاقتصادية والدينية التقدمية الواعدة التى تشتدّ الحاجة إليها فى المملكة، وتغذى السردية المتطرفة بأن إصلاحات ولى العهد نابعة من دوافع سياسية ضدّ الإسلام. كما أن التسرّع فى تطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل يسيّس الخطاب السعودى الجديد والضرورى حول التسامح الدينى. يُضاف إلى ذلك أن بإمكان المواطنين السعوديين ملاحظة التراجع عن المواقف السابقة فى وسائل الإعلام وفى خطب رجال دين رسميين لإضفاء الشرعية على علاقة علنية مع إسرائيل.
لا بدّ من الإشارة إلى أن العلاقات مع إسرائيل ستبقى دائما رهينة حسابات العائلة المالكة السعودية لما يضمن صمود النظام. وفى حال تم تطبيع العلاقات، فإن النظام السعودى سيكون مضطرا، فى كل مرة يستخدم الجيش الإسرائيلى القوة المفرطة ضدّ الفلسطينيين أو يحدث تغيير سياسى ما فى فلسطين، إلى الرد وإن رمزيا على هكذا خطوات، نظرا إلى التعاطف الشعبى فى السعودية مع القضية الفلسطينية.
رابعا، لن يعنى التطبيع أن الشعبين السعودى والإسرائيلى سيصبحان صديقين. يعتبر عدد كبير من الكتّاب ورجال الدين السعوديين أن إسرائيل لا تُشكّل تهديدا لدول الخليج. وتأتى هذه السردية فى خضم حملة تُشَنّ برعاية الحكومة دعما للهوية الوطنية السعودية، وتضع هذه الحملة الهوية السعودية فى مرتبة أعلى من الهوية العربية أو حتى الإسلامية. وتعتبر هذه السردية أيضا أن الشباب السعوديين، أو «السعوديين الجدد» المتأثّرين بالغرب والمتعلّمين وذوى الذهنية المنفتحة، يريدون إقامة علاقات مع إسرائيل.
لكن ليس واضحا أن هذا الخطاب عن الهوية يلقى رواجا فى المجتمع السعودى. فقد ظهر رد فعل مناوئ لمجمل هذه الحجّة القومية المتشددة التى غزت مواقع التواصل الاجتماعى فى المملكة خلال الأعوام الثلاثة الماضية. وتؤكّد استطلاعات الرأى الأخيرة الصادرة عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ومركز زغبى للخدمات البحثية أن العلاقة مع إسرائيل فى الوقت الراهن لا تتمتع بشعبية فى أوساط المواطنين السعوديين بصورة عامة.
أضف إلى ذلك أن التعاون الإسرائيلى مع النظام السعودى فى المجالَين السيبرانى والاستخبارى يعطى المواطنين السعوديين مصلحة سياسية مباشرة للاعتراض على توطيد العلاقات مع إسرائيل من منطلقٍ تتخطى تعاطفهم مع الفلسطينيين، إذ إن هذا التعاون يعزّز قدرات الرياض على مراقبة مواطنيها وتعقّبهم.
خامسا، يسود اعتقادٌ فى الرياض بأن العلاقات الجيدة مع إسرائيل سوف تؤدّى إلى تصويب الضرر الذى لحق مؤخرا بالعلاقات الأمريكية ــ السعودية. لقد كانت إسرائيل مصدرا أساسيا لمعارضة الكونجرس والرأى العام الأمريكى توطيد العلاقات مع السعودية، على الرغم من النفوذ الواسع الذى تمارسه المملكة فى الأوساط المعنيّة بصنع السياسات الأمريكية.
ولكن هذا الاعتقاد نابعٌ، فى جزء منه، من النظرة الخاطئة السائدة راهنا بأن مشكلات الرياض فى واشنطن ناجمة عن تحيّز الديمقراطيين ضد المملكة. تُقلّل هذه النظرة من شأن التعقيدات التى تتصف بها العلاقات الأمريكية ــ السعودية، فضلا عن المسائل الخلافية التى تتجاوز القضايا المطروحة فى إطار الأجندة الدبلوماسية الثنائية، وتشكّل جزءا من النقاشات بشأن السياسات الخارجية والمحلية فى داخل الولايات المتحدة. وهذه النقاشات تشمل مثلا استعادة الولايات المتحدة قيادتها العالمية مع العمل على وضع تصوّر جديد لاستخدام الأدوات العسكرية، وإرساء توازن أفضل بين القيم الديمقراطية الليبرالية للولايات المتحدة ومصالحها فى الخارج. سوف يكون لجميع تلك المسائل تأثيرٌ على العلاقات الأمريكية مع السعودية وإسرائيل على السواء.
سادسا، ربما تتطلع القيادة السعودية إلى الحصول على أكثر من «الثمن الباهظ» التقليدى الذى تناقشه الدوائر المؤيّدة للفلسطينيين فى الرياض، والذى يتمثّل تقليديا فى إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل. بإمكان ولى العهد السعودى استخدام الدعم الأمريكى فى مواجهة أعدائه، ليس فى السعودية فحسب إنما أيضا فى واشنطن. يكتسى هذا الدعم فعالية مثبَتة تاريخيا فى منطقة الخليج. ففى العام 1995، لعب الدعم الحاسم الذى قدّمته واشنطن للأمير القطرى الجديد والمختلف عليه، الشيخ حمد بن خليفة آل ثانى، دورا «حاسما» فى ترسيخ سلطته ضد خصومه المحليين والإقليميين. وقد بنى الشيخ حمد على هذا الدعم من خلال تطبيق أجندة ليبرالية وتوطيد العلاقات مع إسرائيل.
ليس الأمر مستحيلا، إنما يجب استيفاء عدد كبير من الشروط من أجل تحقيق السيناريو نفسه فى السعودية. أولا، يجب أن يفوز ترامب فى الانتخابات المقبلة. ثانيا، يجب أن يفى ترامب بالوعد الذى قطعه بدعم القيادة السعودية فى مواجهة خصومها المحليين على الرغم من تحذيرات الخبراء من مغبّة التدخّل فى الشئون الداخلية السعودية. ثالثا، تحتاج القيادة السعودية الجديدة إلى استمرار هذا الدعم، حتى فى ظل أى إدارة ديمقراطية فى المستقبل.
الآفاق المقبلة
إنه لأمرٌ مفهوم أن الولايات المتحدة وإسرائيل تريدان إضفاء طابع رسمى على الاعتراف السعودى بـ«حق [الإسرائيليين] فى أن تكون لهم أرضهم». فالسعوديون، بحسب قول ترامب نفسه، «نافذون.. يتمتعون بقوة حقيقية بسبب آثارهم الدينية». ولكن السياسات التى تنتهجها الدول الثلاث راهنا قد تتسبب بفقدان السعودية النفوذ الاستثنائى الذى تتمتع به فى العالم الإسلامى بحكم مكانتها هذه.
وليست القوة الإقليمية للسعودية نابعة فقط من اقتصادها، بل الأهم أنها نابعة من القبول الشعبى لنفوذها فى مختلف البلدان ومن ثم قدرتها على رسم توجهات سياسية معينة خارج حدودها. وحين تلقى سياسات الرياض استحسانا شعبيا، تغدو قوّتها الناعمة مضاعَفة.
ليس من مصلحة واشنطن أو تل أبيب أو الرياض دفع السعودية إلى اعتماد سياسات من شأنها أن تشكّل تحدّيا إضافيا لهذا النوع من القيادة الإسلامية والعربية ومن الشرعية الداخلية التى تتمتع بهما الرياض. فهذه السياسات لا تُهدّد بالقضاء على النفوذ العالمى الاستثنائى للمملكة بشكل يصب فى مصلحة جهات دولتية وغير دولتية أكثر عدائية فحسب، بل من شأنها أيضا أن تُبدّد قدرة السعودية على قيادة دول أخرى ذات غالبية عربية ومسلمة نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، عندما يحين الوقت لإرساء سلام عادل مع الفلسطينيين عن طريق المفاوضات.
النص الأصلى