هوامش على دفتر الكارثة

أحمد يوسف أحمد
أحمد يوسف أحمد

آخر تحديث: الخميس 29 نوفمبر 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

كأنما تنقصنا الكوارث كى نُزَلزَل بهذه الكارثة الجديدة غير المسبوقة فى تاريخ مصر المعاصر. فى قرارات كارثية سابقة كان السؤال يثور على الفور عن طبيعة المشورة التى تُقدَم لرئيس الجمهورية أو بالأحرى رداءتها. فى هذه المرة طمأننا الرجل فى الخطبة التى ألقاها بأحد المساجد فى اليوم التالى لصدور إعلانه الدستورى الجديد بأنه يتخذ قراراته بعد أن يستشير الجميع. تلفتُّ حولى بحثا عن هذا «الجميع». أيكون عدد من رموز القوى السياسية فى مصر التقاه قبل أيام؟ فوجدتهم جميعا يسيرون متلاحمين إعلانا لوحدتهم فى معارضة القرار. أيكون وزير عدله؟ لاحظت أن للرجل تحفظاته على الإعلان. أيكون مجلس القضاء الأعلى الذى انصرف الإعلان أساسا إلى تدمير السلطة القضائية التى يدير شئونها؟ فقرأت تصريحا لرئيسه يقول فيه إنه علم بالإعلان من التليفزيون، ثم طالعت بيانا للمجلس يصف الإعلان بأنه اعتداء غير مسبوق على استقلال القضاء وأحكامه. أيكون مساعدو الرئيس وهيئته الاستشارية هم من أوعز له بهذا الإعلان «العبقري»؟ لاحظت أن عددا منهم قدم استقالته أو أبدى تحفظه، ولم يبق سوى نفر قليل جابوا الفضائيات وتحدثوا فى خفة عن الموضوع وكأنهم أطفال عثروا على قنبلة، فأخذوا يتقاذفونها فرحين بما أصابوا، غير أن أطرف المشاهد تبدى فى لقاء رئيس الجمهورية بمستشاريه بعد صدور الإعلان ــ لكى يوضح قراراته ويستمع لرأيهم فيها ــ وظهور بوادر التحفظ على الإعلان من بعضهم!

 

•••

 

لا يبقى إذن فى دائرة المشورة المحتملة سوى حزب «الحرية والعدالة» الذى أرسل رجاله إلى دار القضاء العالى قبل صدور الإعلان بساعات تحسبا للتطورات، وكأن هذه القرارات المصيرية يمكن أن تمر بهذه الطريقة الرخيصة، واصطفت قوى «التيار الدينى» خلف الإعلان كأنها البنيان المرصوص، وحرض رجالها رئيس الجمهورية على العسف بخصوم «الإسلام»، وأسبغ دعاتها فى المساجد صبغة دينية على تصرفات الرجل، فهو «موسي» يواجه «سحرة فرعون»، وقراراته هجرة بالمسلمين من نظام فاسد إلى نظام جديد، وهو «مسدد من الله» كلما أتى بقرار خرج منه «بربح وفير»! ولقد بلغت الفجاجة بهؤلاء إلى أن ثار عليهم قسم من المصلين فى بعض المساجد، وكادوا ينزلوهم من على المنبر. بالمقابل اصطفت باقى قوى المجتمع فى تحد واضح للقرار من قضاة ومحامين إلى أحزاب مدنية إلى صحفيين ومثقفين وغيرهم الكثير، ونزلت بفعالية إلى الشارع، واتخذت من القرارات ما يقترب من تطبيق عصيان مدنى، وتحول الاستقطاب السياسى الحاد قبل صدور الإعلان إلى انقسام كامل من المذهل أن رئيس الجمهورية عمقه بوقوفه بين أنصاره مخاطبا لهم مدافعا عن قراراته، وكان بمقدوره أن يدلى بخطاب إلى الأمة درءا لشبهة أنه ما زال يتصرف باعتباره رئيسا سابقا لحزب «الحرية والعدالة»، وليس رئيسا حاليا لجمهورية مصر، ناهيك عن الاستمرار فى لغة الخطاب السياسى التى لا تليق امتدادا للحديث عن «الاثنين المتآمرين»، فثمة أربعة من المتآمرين يختبئون فى حارة، ونفر آخر يلتحفون برداء القضاء، وغير ذلك مما يحسن بأحد من الذين يريدون برئيس الجمهورية خيرا أن يلفت نظره إلى ضرورة التوقف عن استخدام هذه اللغة التى قد تصلح على أحس الفروض لمفتش مباحث أو مدير إدارة بالأمن الوطنى.

 

يرتبط بهذا الحديث عن مصادر معلومات رئيس الجمهورية، فهو فى خطبة يوم الجمعة التى سبقت الإشارة إليها يتحدث على نحو غير مباشر وإن كان لا يحتمل اللبس عن تسريب المحكمة الدستورية العليا لحكمها بخصوص مجلس الشورى، وإذا كان للمحكمة أن تُلام فعلى التأجيل غير المبرر لحكم معروف سلفا، لأن أساسه القانونى هو الأساس نفسه الذى استندت إليه فى حكمها بحل مجلس الشعب، وقيادات قريبة منه فى «الإخوان المسلمين» تبرر فعلته بالحديث عن انقلاب كان القضاء يدبره عن طريق أحكام كان من شأنها أن تعود بأحمد شفيق! أو تدبره المحكمة الدستورية العليا كإحياء الإعلان الدستورى المكمل! وعودة السلطة التشريعية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة! وكلها خزعبلات يقتضى النظر فيها أن يلقى المرء بعقله فى سلة المهملات أولا.

 

•••

 

ما العمل إذن فى هذا الموقف العصيب؟ لا تحتاج القوى الفاعلة فى المجتمع إلى كلمات مسطرة فى مقال كى تتحرك، فقد كانت قرارات رئيس الجمهورية صادمة إلى الحد الذى دفعها من فورها إلى ساحة الفعل، لكن ما يهمنى التأكيد عليه الآن هو أن أخطر نهج يمكن التعامل به مع ما وقع هو النهج الوسطى، فقد ذهب البعض إلى أن فى الإعلان عيوبا وحسنات، وعلى سبيل المثال فإن ثمة من أيد عزل النائب العام باعتباره مطلبا ثوريا. وبغض النظر عن هذا فإننى أدعو هؤلاء إلى تدارس ما قاله فى الجمعية العمومية لنادى القضاة، غير أن الأهم من ذلك هو عدم قانونية أسلوب عزله. وذهب آخرون إلى الإعجاب بإعادة محاكمة المتهمين بقتل الثوار، وهؤلاء مدعوون إلى قراءة الإعلان الدستورى الجديد المنعدم أصلا ــ وفقا للفقيه طارق البشرى ــ ثم مراجعة قانون «حماية الثورة» التالى على الإعلان كى يكتشفوا أن الحديث عن إعادة المحاكمات ما زال حتى الآن صرحا من خيال. رحب فريق ثالث بإنصاف مصابى الثورة، وهو عمل حميد يربأ المرء به أن يُدَسَ وسط هذه الحزمة من القرارات سيئة السمعة. كذلك بدأ الحديث عن أن تحصين قرارات الرئيس سوف يقتصر على أعمال السيادة، وهذا مردود بأن الإعلان فى جوهره قضاء مبرم على دولة القانون لصالح رئيس كم بالغنا فى الحديث عن أننا لا نريده فرعونا فى الدستور الجديد، فإذا به فرعون هذا الدستور قبل صدوره. أما شر البلية ففى القول بأن الفرعون مؤقت بشهرين أو بمدة قصيرة، ولا أدرى من أين واتت أصحاب هذا القول الثقة فى أننا بصدد مدة قصيرة، فالجمعية التأسيسية سوف تنتهى من عملها حوالى منتصف فبراير المقبل، ثم يُناقَش مشروع الدستور فى مدة لا يمكن أن تقل عن أسبوعين، ثم يُستفتَى عليه وقد يرفضه الشعب فندخل فى متاهة طويلة أو يقبله فنحتاج إلى مدة لا تقل عن ثلاثة شهور حتى يلتئم شمل مجلس الشعب. أى أننا ــ بافتراض أن كل شيء سوف يسير وفقا لما هو مخطط له بما فى ذلك الموافقة على مشروع الدستور ــ نتحدث عن مدة لا يمكن أن تنقضى إلا فى النصف الثانى من العام المقبل، وهذا كله بالإضافة إلى أنه ليس ثمة مجال للحديث عن «فرعون مؤقت» أصلا، وكأننا نطلب من الضحية أن تسمح لنا بقتلها ليومين فقط.

 

يعنى ما سبق أن المطلوب هو إسقاط هذا الإعلان، ومن المستحيل فى تقديرى على رئيس الجمهورية أن يتراجع للمرة الثالثة فى قرارات أساسية فى مدة حكم لم تكمل الخمسة شهور عمرا، بالإضافة إلى أن تراجعا كهذا سوف يقلب عليه أنصاره الوحيدين من إخوان وسلفيين وغيرهم، وهو ثمن باهظ لا يستطيع تحمله الآن، وفى الوقت نفسه فإن القوى المعارضة للرئيس سوف تثابر على تحديه ميدانيا وكذلك بتصعيد العصيان المدنى، وإذا استمر هذا المناخ من الاستقطاب والتصعيد فإن ثمة سيناريوهات أخرى مطروحة منها تدخل المؤسسة العسكرية، وعلى الذين يتهمون غيرهم بأنهم يحرضون على تدخل الجيش أن يدركوا أن الجيوش لا تتدخل فى أجواء الاستقرار السياسى، وإنما تُخلَق الظروف للتدخل من الفوضى السياسية التى توجدها قرارات كتلك القرارات الكارثية، فالقوات المسلحة لا تستطيع أن تتفرغ لمهمتها الأولى فى الدفاع عن سلامة الوطن، وهى تشعر بأنها تستند إلى أرض رخوة فى الداخل، ولذلك فإن الحل الوحيد هو رجوع مؤسسات الحكم إلى الحق، وكم هى خطوة شاقة على القوى الديمقراطية أن تجعلها ممكنة.

 

 

 

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومدير معهد البحوث والدراسات العربية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved