«حكايات حارتنا».. فتافيت سردية مدهشة!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 29 نوفمبر 2019 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
اسم الباب الذى يكتب فيه الكاتب أرابيسك
بعد أن أنهى محفوظ كتابة روايته المدهشة «المرايا» (1971)، مؤسسا فيها لرواية الشخصيات فى وحدات مستقلة يجمع بينها الراوى، استأنف محفوظ هذا الشكل الذى مزج فيه بين «الرواية» و«القصة القصيرة»؛ فى جوهرته المنسية وواحد من أهم نصوصه وأخطرها، ولم يلتفت إليه النقاد بما يستحقه من عناية وتحليل؛ أقصد «حكايات حارتنا»؛ ثمانى وسبعون حكاية مستقلة، لكنها ترتبط مع بقية الشخصيات بخيط «رفيع متين» فى الوقت ذاته، يقول عنها نجيب محفوظ بنفسه «كتبتها كنوع من السيرة الذاتية، ثم تغير منهجها»، ولهذا فإننى لا أتردد فى أن أضمها يقينا إلى نصوصه المدهشة؛ «رأيت فيما يرى النائم»، «أصداء السيرة الذاتية»، و«أحلام فترة النقاهة» و«الأحلام الأخيرة» باعتبارها «نصوصا سيرية» فيها من سيرة محفوظ، وفيها من تفاصيل حياته المرجعية حتى وإن وارها ببراعة ضمن نسيج السرد التخييلى فيها كلها.
كل حكاية من الحكايات الـ 78 أشبه بقصة قصيرة كاملة، وحدة سردية مكتملة يمكن أن تقرأ بذاتها لذاتها، يمكن أن تتراوح بين عدة أسطر ولا تزيد على صفحة أو اثنتين فى الغالب، يربط بينها «الراوى»، الذى يكاد يعادل محفوظ الواقعى نفسه، و«الحارة» الفضاء الأثير والمدهش لنجيب محفوظ و«التكية» بغموضها وأحلامها ورمزيتها التى تتمحور حولها الأحداث والوقائع وتستدعى الذكريات، يقول عنها كمال النجمى فى كتابه (نجيب محفوظ بين أصداء معاصريه) «هذه المجموعة من الحكايات الذكية التى تنطبع فيها صورة صادقة من صور مصر، لا يبليها الزمان، شكل نجيب محفوظ فى رواياته عالما قل نظيره عند الروائيين، ينتمى إلى «حارة» محددة، ولكنه دال على عالم متنام متسع الأطراف، يمتد البصر فيه فتتعدد وتتنوع خياراته، فكله زوايا مشعة جاذبة إلى التأمل فيها». ولهذا سيصف النجمى محفوظ صادقا بأنه «ابن الحارة المصرية، عاش فى قمة الحارة، وفى سفحها، وفى أقبائها ومجاهلها، فأصبح عالميا فى انتسابه إلى الحارة المصرية إنه وطنى الرؤية، عالمى الأفق، كونى التطلعات والأشواق.. سواء كتب رواية من ألف صفحة، أو حكاية من عشرة أسطر! ولهذا سيعيش ما كتبه نجيب محفوظ أجيالا كثيرة».
وبالمناسبة (إذا لم تخنى الذاكرة) كان أول ظهور للأناشيد الشعرية المنبعثة من التكية بلغتها الغريبة الغامضة (اللغة الفارسية) فى «حكايات حارتنا» (1975) قبل أن توظف بصورة أكبر فى «الحرافيش» (1977) الحارة فى حكايات حارتنا كانت «حارة انتقالية» كما أطلق عليها بصدق الكاتب والروائى ياسر عبداللطيف بين رواياته الواقعية والرمزية المباشرة وبين أمثولته الكبرى «الحرافيش».. يقول «بالفعل تبدأ حكايات حارتنا بأقاصيص شبه سيرية بها من رائحة «أصداء السيرة الذاتية»، لكنها تستحيل بعد ذلك إلى مزج من الحكى اللعوب، والأمثولى، والواقعى، كأن الحارة هنا فى منتصف الطريق بين حارة الثلاثية، وزقاق المدق، الواقعية، وحارة الحرافيش الفانتازية، وحارة أولاد حارتنا برمزيتها المباشرة.
ويكثف ياسر عبداللطيف قراءته لـ «حكايات حارتنا»؛ بقوله إنه «كتاب فاتن وقليل الشهرة بسبب تشابه عنوانه مع «أولا حارتنا» وطغيان شهرة الأخيرة». ثم يؤصل عبداللطيف لهذا الشكل من الأقاصيص المتصلة المنفصلة التى أطلق عليه إدوار الخراط لاحقا «متتالية قصصية» مستعيرا التصنيف الموسيقى الشهير، عندما أصدر مجموعته «أمواج الليالى»، و«المتتالية القصصية» هى التى تقوم على وجود نصوص متصلة منفصلة، يمكن قراءة كل نص منها مستقلا، كما يمكن قراءته فى ترابطه وتفاعله مع النصوص الأخرى.
كانت محاولة طموحا من محفوظ لتجاوز إشكالية النوع (رواية صرف أو قصة صرف) وكانت بذرة ستؤتى ثمارها الناضجة فيما بعد فى «أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة» و«الأحلام الأخيرة».
فى «حكايات حارتنا» ستتعمق رؤية محفوظ، وتتنوع، وتتسع إزاء الموت والحياة، والبحث عن الأصل المفقود، ودراما الخير والشر، العنف والوداعة، البراءة والدنس؛ بانوراما مكثفة لحياة مصرية، متجددة ومتعددة ومتنوعة، وحشد من الشخصيات التى اكتسبت حضورها وخلودها من سرد حكاياتها على إيقاع ربابة محفوظ المعاصرة.
«حكايات حارتنا» نص ممتع وسلس بشكل معجز، حكايات ملهمة وبسيطة، وعميقة بذر فيها محفوظ بذرة نصوص تالية تخلقت بعدها، إنها «فتافيت سردية» مدهشة، فيها من عطر نجيب محفوظ وشذاه الأصيل، الذى يملأ الدنيا ويسحر الألباب بإبداعه العجيب.