طه حسين الأصولى!
سيد محمود
آخر تحديث:
السبت 29 ديسمبر 2018 - 11:30 ص
بتوقيت القاهرة
ضربت الكاتبة الصحفية الكبيرة ماجدة الجندى «كرسى فى الكلوب» وقلبت المائدة فى لقاء المثقفين الذى عقدته مكتبة الإسكندرية قبل عدة أيام، وقالت بالفم المليان وبصريح العبارة: «لن ينصلح حال أمة يضطر مفكروها إلى التراجع وعدم الحسم فى كل مرة يطالبون فيها بدولة مدنية ويستندون فى تبرير وجودها إلى نصوص دينية، والإقرار بأن مطلبهم لا يتعارض مع الدين ويلجئون لتأويل مضاد لنصوص فقهية ودينية».
المنصة التى واجهت هذا الحديث كانت تحتشد بأسماء من الوزن الثقيل تولى معظم أصحابها مناصب وزارية مهمة مثل الدكاترة على الدين هلال وجابر عصفور ومفيد شهاب ودرية شرف الدين ومصطفى الفقى المدير الحالى للمكتبة والدكتور أسامة الأزهرى مستشار رئيس الجمهورية والدكتور صلاح فضل الذى صاغ وثيقة الأزهر والتى ذهبت هى الأخرى إلى الريح رغم الجهد المبذول فيها.
وباستثناء الدكتور الأزهرى تنتمى المنصة بربطة المعلم إلى زمن (منظمة الشباب) حيث النظر للثقافة باعتبارها اداة توجيه وإرشاد وهو أيضا زمن أصولى بمعنى ما، حافل بنوستالجيا الأحلام الكبيرة لكنه يؤكد ما قالته ماجدة الجندى عن التعلق المريض بالماضى، وهو أمر كاشف بامتياز عن مأزق المثقف المعاصر الذى يطالب بالتنوير وبداخله جذر أصولى ينشط فى أعماقه ويقوده ليكون دائما من جنود المعركة الخطأ.
اجتمع المثقفون بالمكتبة حول طبعة جديدة من كتاب (مستقبل الثقافة فى مصر) لطه حسين صدرت بمقدمة للدكتور سعيد إسماعيل على استاذ التربية المعروف وكان اللقاء على أهميته هو سعيا لإقرار(أصولية ثقافية) ما، تستند فى تبرير وجودها إلى مثقف عظيم وتريد أن تضعه فى موضع الفقيه.
وطوال ساعات اللقاء لم أفهم مبررات المكتبة فى إعادة نشر الكتاب وهو متوافر فى عدة طبعات آخرها صدر قبل عامين عن هيئة الكتاب بمقدمة للمؤرخ أحمد زكريا الشلق وأظنها لا تزال متاحة للبيع فى منافذ الهيئة وقبلها كانت توجد طبعات اخرى متاحة بمقدمات آخرين.
ولم ينتبه احد من المعقبين على الكتاب إلى أن صاحبه قام بمراجعة جذرية لأفكاره فى الكتاب وأقر فى حوار مع الصحفى الراحل محمود عوض تضمنه كتاب (شخصيات) بأنه تمنى لو أعاد طبع الكتاب وراجع فيه الكثير من مقولاته وبالذات حول التعليم، كما لم يلحظ أحد أن العميد انطلق من صياغة تقرير حكومى موجه لصناع السياسات واغلب من كانوا على المنصة كانوا صناع سياسات وتجاهل أغلبهم درس طه حسين وأفرط فى درس الاستبداد ولم ينتقل من شرط ثقافة الضرورة لثقافة الحرية وبعضهم توغل فى أداء دور الرقيب المحرض على الإبداع باسم الارتقاء بالمحتوى.
لم يحب عميد الأدب العربى أن يحظى نصه بكل هذا الركود، ولم يرغب فى أن يكون جامعا ومانعا ومارس نقدا ذاتيا قبل عام من رحيله تفتقر اليه النخبة الحالية التى لا تزال تدور حول نفسها فى معركة (البيضة أم الفرخة).
وتريد تفادى الصدام بدلا من دفع الأثمان فى لحظة المواجهة وهو الدرس الحقيقى للنهضة ولطه حسين أيضا.
يفضل مثقفونا الذهاب إلى صيدلية الماضى ويفضلون صرف الدواء البديل بدلا من كتابة روشتة العلاج وتشخيص المرض.
وفى تصورى أن من حضروا لقاء المكتبة الذى فتح شهية الناس للحديث عن مخاطر إغلاق المجال العام تورطوا فى مختلف أشكال الخلط بين الرؤى والأهداف والوسائل إلى جانب توريط المكتبة قى أدوار ينبغى أن تلعبها مؤسسات أخرى داخل وزارات الثقافة والشباب والتعليم.
ولم يدرك أغلب من تحدثوا أن المكتبة ليست قصرا للثقافة أو وحدة من وحدات رعاية الشباب.
فهى كيان عالمى له مهمة أكبر هى المساهمة فى صياغة أفكار ابعد من تلك التى يمكن أن ينجزها موظف صغير فى مديريات الثقافة.
من الصعب القول بأن اللقاء لم يكن مفيدا بل على العكس من ذلك ساعد على إدراك الجرح الحقيقى حين تحدث على الدين هلال عن مخاطر إغلاق المجال العام وأشارت د. هالة فؤاد أستاذة التصوف إلى مخاطر تعليب الدين فى زجاجات (التنمية البشرية) وتسويق مقولات التصوف الهادئة كبديل عن الإسلام الجهادى بعد أن تم حصار إسلام السوق.
وحفل اللقاء بنقاشات مفتوحة وأفكار لامعة منها دعوة أسامة الأزهرى لعقد اجتماعى جديد ينهى خطاب التكفير ويربط بين التجديد الدينى وتجديد الخطاب الثقافى، ودعوة محمد المخزنجى للتفكير فى مؤتمر جديد عن ثقافة اخرى تحتاج إليها مصر تجمع بين ثقافة العلوم الطبيعية والتطبيقية والعلوم الانسانية والتأكيد على حاجة المكتبة تحديدا لمؤتمرات من هذا النوع تجمع اسماء لها منجزها العلمى بدلا من هدر الوقت فى حديث ينتمى كله إلى الماضى.