يا أيها القراء.. اقرأوا
معتز بالله عبد الفتاح
آخر تحديث:
السبت 30 يناير 2010 - 9:58 ص
بتوقيت القاهرة
يسألنى بعض من شباب القراء عن نصائح تعينهم على أن يكونوا أكثر فهما لواقعهم واستعدادا لمتطلبات زمنهم، فلا أملك إلا أن أقول لهم «اقرءوا» فى الدين وفى غيره. وهو ما فهمته من ملاحظة الشيخ محمد الغزالى البارعة عن قول الحق سبحانه «اقرأ» كأول كلمة استقبلتها أذن الرسول الكريم (ص) من آخر رسالات السماء. وملاحظة الشيخ هى أن أمر «اقرأ» ورد غير متعد لمفعول. فلم يقل الحق اقرأ ماذا وإنما ركز على المنهج بأن نقرأ باسم ربنا الذى خلق مع التذكير بكيف أن الله خلق الإنسان من علق وكيف أنه علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. واتخذ الشيخ من هذه الآيات دليلا على جمع الأمر القرآنى بين الدين والعلم والفلسفة: اقرأ فى كتاب الله القرآن أى تدين وآمن، واقرأ فى كتاب الله الكون أى تعلم وتفكر. وهو نفس ما ذهب إليه الزكى النجيب محمود حينما صدر كتابه «رؤية إسلامية» بفصل عنوانه «أنا المسجد وأنا الساجد» أى أننا نحن المسلمين جُعلت لنا الأرض مسجدا فالمعمل مسجد والعالم ساجد فيه وهو يعمل والمدرسة مسجد والمدرس ساجد فيها وهو يدرس والمشفى مسجد والطبيب ساجد فيه وهو يعالج مرضاه. فالمسلم مسجد وساجد فى آن معا. هذا ما ينبغى أن يكون وإن شئت فقل هذه هى القيم التى نمنا فى نورها، واستيقظ الآخرون فى ظلام غيابها، فتراجعنا وتقدموا.
***
أما ما هو بين أيدينا من واقع فيحتاج أشعة خارقة للشكليات نافذة للجوهر والآفات ... ولنبدأ بالملاحظات الثلاث التالية:
1 ــ حين كنت فى القاهرة، وجدت زميلة لى فى الجامعة وقد تأخرت فى التسجيل لدرجة الماجستير؟ سألتها، فقالت: إننى أستحضر النية. وقلت لها كم قد يستغرق ذلك منك؟ فقالت عدة أشهر ربما. قلت: هل أدلك على شىء إن فعلتِه استحضرتِ النية؟ قالت: نعم. قلت: أتمى عملك على خير وجه وقولى قبل وأثناء وبعد العمل: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم». إن الله ما كلفنا فوق ما نطيق، وما أمرنا باستحضار النية الصالحة حتى تكون معطلة عن العمل، هذا من الخرافة وإن نسبناه للإسلام زورا.
2 ــ لماذا رفضت زميلتى الأخرى التسجيل فى الموضوع الذى اقترحه مشرفها عن التطور الاقتصادى والديمقراطى فى الهند؟ سألتها فقالت لأنها تريد عملا تخدم به الإسلام. سألتها مثل ماذا؟ قالت: مثل النموذج الإسلامى الحضارى فى عهد سيدنا عمر بن الخطاب. قلت: وما أدراك أن الثانى يخدم الإسلام أكثر من الأول؟ قالت كلاما ما وافقتها عليه وكانت حجتى أن المسلم المحب لدينه ومجتمعه عاقل رشيد يعرف أنه فى الأصل إنسان ينطبق عليه ما ينطبق على سائر البشر ويمكن له أن يستفيد من تجارب الآخرين. فموضوع صدر الإسلام درس مئات المرات من قبل باحثين ومؤرخين وفلاسفة وأصبح الجديد فيه قليلا للغاية. هذا الموضوع الذى بدا لها «إسلاميا» لا يخدم الإسلام فى شىء إلا إذا كانت واثقة من أنها ستأتى بجديد، وللأسف لم تكن أجندتها تحوى أكثر من أن الموضوع «إسلامى» يتم تناوله بطريقة «إسلامية» وهو كلام يصعب علىّ فهمه. قلت لها نحن لا يوجد لدينا فى كلية الاقتصاد متخصصون فى الهند وشئونها على الرغم من وجود آخرين متخصصين فى الفكر الإسلامى وتجاربه، وبالعودة لابن تيمية: «لو برع غير المسلمين فى علم من العلوم أو درب من الدروب أو فن من الفنون، ولم يكن عند المسلمين نظيره فقد أثم المسلمون» وبما أننا بحاجة لمثل هذا التخصص فى قضايا الهند فهى ستخدم الإسلام أكثر. فخدمة الإسلام لا تحتاج لافتة إسلامية أو أن يكون موضوع الدراسة «إسلاميا» فالذى درس دورة حياة البعوضة وتبين منها الطور المعدى لمرض الملاريا ما كان يدرس «بعوضة إسلامية» ليفهم انتقال مرض «الملاريا الإسلامية» وإنما كان له أن يخدم الإسلام بخدمته للإنسانية مادام لم ينس «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم».
3 ــ تناقشت مع بعض الزملاء فيما يحدث حولنا فى المنطقة من تناحر جعل بعض العلماء الأفاضل ينادون من على الفضائيات المتناحرين فى فلسطين والعراق والصومال والسودان واليمن إلى الاجتماع على كلمة سواء؛ وكأن مشكلاتنا خناقة فوق كوبرى «نقول كلمتين نهدى النفوس وكل واحد يروح لحاله». من أسف هذا تبسيط مخل لا يختلف عندى عن أولئك الدعاة الذين يظنون خطأ أنهم يخدمون الإسلام فقط بدراسة إيجابيات أول مائتى سنة من تاريخ الدولة الإسلامية. وقد قالها محمد الغزالى: ماذا يفيد الإسلام إذا طلق المسلمون الدنيا وتزوجها غيرهم؟ وأنا أسأل علماءنا الأفاضل، الذين أكن لهم كل احترام، هل حل مشكلة التعايش بين المسلمين وغير المسلمين أو المسلمين من طوائف ومذاهب مختلفة يكون من خلال انتقاء قصص منمقة ومنتقاة بعناية عن التعايش والتحاب والأخوة الإسلامية؟ لماذا لم ينجح الصحابة العظام فى التعايش بعد وفاة سيدنا عمر؟ ولماذا الفتنة الكبرى؟ أحد المشايخ قال بثقة لا أعرف مصدرها: إن الشيطان دخل بينهم. وأنا أسأل الشيخ الفاضل: ألم يعرف الصحابة العظام كيف يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم الذى نعلم يقينا أن كيده كان ضعيفا بنص القرآن الكريم؟ أم أن المشكلة أكثر هيكلية من قصة أو رواية؟ لقد هدم الحجاج بن يوسف الثقفى الكعبة بنيران المنجنيق؟ والمعتصم بالله الذى نعرف عنه قصة فتح عمورية لأن امرأة قالت «وا معتصماه» وخلده أبو تمام فى قصيدته المشهورة هو الذى لم يستطع أن يتعايش مع الإمام الجليل أحمد بن حنبل وعذبه فأغلظ تعذيبه. بل إن المعتزلة زعماء الفكر التنويرى فى تاريخ المسلمين حملوا على أعدائهم حملة أهانت العقل والتفكير.
دعونى أقل إن مجتمعاتنا تمر بمشاكل هيكلية. كالمبنى الذى تحتاج أساساته إلى إعادة تأهيل. القضية ليست فى دهان حجرة هنا أو تغيير عتبة سلم هناك. المسألة ليست أن يقف داعية أو شيخ من على منبر فيحكى لنا ما نحب أن نسمعه عن الأخوة والتعايش والإيثار الذى كان عند «بعض» الصحابة لكنه قطعا لم يكن عند الجميع بنص القرآن إذ قال: «منكم من يريد الدنيا.» القضية تحتاج إلى العلوم الاجتماعية وإلى الفلسفة وتاريخ الفكر وليس فقط إلى دعاة ومشايخ مهما حسنت نواياهم. أين هؤلاء العلماء والفلاسفة وما هى دراساتهم وكيف نستفيد منها إن وجدت؟ القضية أخطر من أن تترك لمن رفع صوته وضعف علمه وقلت خبرته ألم يقل عمر رضى الله عنه «تفقهوا قبل أن تسودوا».
لقد غلب التدين الشكلى الذى يحرص بعض الدعاة والعلماء على أن ينبهونا ألا نقف عند حدود الشكل فيه لكنهم حقيقة يغذون هذه النزعة الشكلية دون أن يدروا. أتدرون لماذا؟ لأن خلطة المسلح التى يصنعونها فيها الكثير من الرمل والقليل من الحديد والأسمنت، فيهوى البناء. فيها الكثير من الغيبيات الدينية والقليل من العلم والفلسفة. هل أدلكم على أشياء إن فعلناها كنا أكثر تدينا وأكثر علما وأكثر فلسفة وأقل شكلية وأقل تواكلا وأقل نفاقا؟ تعالوا نفكر معا.
إن الدين بلا فلسفة سيكون شكليات تهتم بتوافه القضايا وتنعزل عن قضايا المجتمع الحقيقية، والدين بلا علم سيكون غيبيات واتكالية على سنن الله الخارقة التى ما وعد الله بها أحدا إلا بعد أن يكد ويكدح عملا بسنن الله الجارية. والفلسفة بدون دين ستكون شطحات وخروج عن المألوف والمقبول، والفلسفة بدون علم ستكون مثاليات نسمع عنها ولا نعرف كيف نصل إليها، والعلم بدون فلسفة سيكون أداة للدمار لأنه سيكون منزوع الأخلاق، والعلم بدون دين سيقف متحديا لقيم المجتمعات المتدينة فيرفضه العوام ولا يفيدون منه. إنها خلطة متوازنة متكاملة يلعب فيها كل مصدر من مصادر المعرفة الإنسانية دوره ... كخلطة الخرسانة التى يشد بعضها بعضا، فلا مفاضلة بينها وإنما التكامل.
كيف نطبق ذلك فى حياتنا العملية؟
فلنسأل أنفسنا السؤال التالى، كم قصة سمعتها أو قرأتها عن الصحابة العظام؟ 100 قصة... عظيم ... اجعلها 150 قصة عن الصحابة العظام ولكن أضف إليهم 50 قصة عن غاندى وعن نيلسون مانديلا وعن بيل جيتس وعن أينشتن وعن نيوتن وعن أحمد زويل وعن أديسون وعن الفلاسفة الكبار الذى خلقوا العقلية الغربية مثل كانط وفولتير ولوك وماديسون وآدم سميث، اعرف كيف نجح هؤلاء وكيف تجاوزوا الصعاب، أعرف معنى البيئة العلمية والتقاليد الجادة فى التفكير والتنظيم وحسن الإدارة وإنكار الذات والعمل الجماعى والشفافية والمكاشفة. وهذا ما يقتضى القراءة والتنوع فى مجالات القراءة فى التخصص وخارج التخصص. بلغة مالك بن نبى لا بد أن نخرج من طغيان الأشخاص والأشياء إلى رحابة الأفكار والأحداث. إن مجتمعاتنا تمر بقرونها الوسطى، مثلما مرت مجتمعات الغرب بما هو أسوأ مما نحن فيه الآن، لكننا لن نخرج مما نحن فيه إلا إذا أعدنا للأفكار مكانتها فى حياتنا، وأرجوا أن يكون وزير التعليم الجديد على استعداد بأن يجعل قضية القراءة مركزية فى برنامج وزارته وإلا فستمتد السنوات العجاف بأكثر مما نطيق.