عن «أزمة» قانون الخدمة المدنية فى البرلمان
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 30 يناير 2016 - 10:40 م
بتوقيت القاهرة
من بين مئات القرارات بقوانين الصادرة منذ يوليو 2013 عن رئيس الجمهورية المؤقت ورئيس الجمهورية الدائم الحالى لم يرفض البرلمان المنعقد أخيرا إلا قانونا واحدا هو ذلك المسمّى «بقانون الخدمة المدنية». كان المتوقع أن تغتبط السلطة التنفيذية بمدى تعاون السلطة التشريعية معها، ولكنها عوضا عن ذلك انزعجت ولامتها على ما اعتبرته عرقلة لها عن تنفيذ برنامجها الإصلاحى. رفض القانون واللوم لقيا أصداء واسعة فى وسائط الاتصال أوحت للرأى العام بوجود «أزمة». هذه الأزمة تستحق تعليقات من أنواع ثلاثة، الأول خاص بنص القانون ذاته وأسلوب إصداره، والثانى عن العلاقة بين الحكومة والبرلمان، والثالث عن مستقبل القانون المنظم للوظيفة العامة فى مصر.
نص القانون الصادر فى مارس من العام الماضى فيه أحكام جيدة كثيرة، وأهم ما فيه أنه يصحح هيكل الأجور تصحيحا ضروريا بأنه يدخل تحديثا على طرائق تنظيم الوظيفة العامة. هيكل الأجور عبث؛ فالأجر الأساسى ليس إلا جزءا صغيرا من الدخل الكلى للموظف الذى تشكل البدلات والعلاوات الجانب الأكبر منه. فى القانون المرفوض، الذى أصبح كأنه لم يكن، الأجر الوظيفى، وله جدول ملحق بنص القانون يبين مستواه عند كل درجة وظيفية، شكّل الجانب الأكبر من إجمالى الأجر، والأجر المكمل صار، كما يدلّ على ذلك مسمّاه، مكملا فعلا. لا يقول القانون ذلك صراحة، ولكن المنطق يحتم أن يصبح الأجر الوظيفى، الذى ارتفع بشكل ملموس عما كان الأجر الأساسى، أساسا لحساب المعاش التقاعدى للموظف. فى هذا ميزة كبير للموظفين المحالين إلى المعاش تكفل لهم مستوى معيشة أفضل من ذلك الذى يوفره القانون القديم. السكوت عن ذكر أساس حساب المعاش ثغرة يجدر سدّها فى أى صياغة جديدة للقانون.
انتقال الموظف بين الوظائف الشاغرة التى ينبغى أن تكون ممولة هو تحديث لأنه يربط ترقية الموظف بالارتقاء فى هيكل الوظائف بحيث لا يرتقى الموظف وهو يمارس نفس العمل الذى كان يمارسه عند درجة أدنى. ضرورة وجود هيكل تنظيمى فى كل وحدة وبطاقات وصف للوظائف، وتحديد لواجباتها ومسئولياتها، ومؤشرات قياس الأداء فيها، هذه كلها أشياء جيدة. المرونة التى تسمح للموظف بأن يعمل بعض الوقت مقابل نسبة من الأجر مستحبة. شغل الوظائف بامتحان والتعيين فى الوظائف العليا لمدة ثلاث سنوات فقط ايجابيان وإن كان التساؤل عن المبرر فى أن يكون التجديد فى الوظائف العليا لمرة واحدة ثم عن السبب فى استثناء بعض الجهات من هذا القيد على التجديد.
***
توجد بعض أوجه التحفظ على نص القانون المرفوض. تقويم الموظف سنويا على مرتين مبالغ فيه ومن شأنه أن يستغرق وقتا يضيع على المسئول عن التقويم خاصة أنه ليست خافية على أحد صعوبة عملية التقويم ونتائجها حتى فى أفضل نظم الوظيفة العامة. فى معظم مثل هذه الأنظمة التقويم لسنتين وهو أكثر عدالة مما اقترحه القانون لأنه يمكن الموظف من أن يناقش التقويم مع رئيسه قبل أن يصل التقرير إلى الإدارة المختصة. القانون المرفوض يسمح فقط للموظف بأن يتظلم من التقويم خلال 15 يوما من إعلانه به. شغل الوظائف بامتحانات وبدون وساطة أو محاباة، أو بالمسابقة فى حالة الوظائف العليا، إيجابى كما سبق ذكره، ولكن من يكفل ذلك وكيف؟ ممن تتكون لجان الامتحان والاختيار وكيف يكفل حيادها وعدم المحاباة فى اتخاذ قراراتها؟ تحفظ آخر يتعلق بسلم إجمالى الأجور. القارئ من غير الموظفين المعنيين لا يدرى إن كان السلم ينتقص من دخلهم/ ولكن على أى حال القانون ينبغى أن يكفل الحقوق المكتسبة.
على أن ثمة وجهين هما أهم ما يمكن أن يوجه من نقد للقانون. الأول هو أن المسئولين عن تطبيقه سمحوا باستثناءات بعد أخرى من تطبيق أحكامه. الاستثناءات تعنى أن هناك «خيارا وفقوسا» ولا أحد يقبل، وعن حق أن يكون «فقوسا». الوجه الثانى هو أن هذا القانون كان ينبغى التباحث بشأنه مع ممثلى الموظفين حتى يسهموا فيه فيصدر فى أحسن شكل ممكن وكل الأطراف راضية عنه. يرتبط بهذا الوجه الثانى أنه لم تكن ثمة أى ضرورة لإصدار القانون بقرار من رئيس الجمهورية فى غيبة سلطة تشريعية. القانون فيه مميزات كثيرة والتشاور والتباحث حوله كان من شأنهما تحقيق الثقة فيه وعلاج ما يعتريه من نواقص. هل كان يراد كسب الوقت «وعدم إضاعته فى تعقيدات عملية التشريع»؟ ها هو الوقت قد ضاع! التشاور والتباحث من سمات الحداثة وهبوط القوانين من أعلى نكوص عنها وتعسف.
***
النوع الثانى من التعليقات على القانون المرفوض هو عن العلاقة بين الحكومة والبرلمان. غريب القول بأن البرلمان يعرقل البرنامج الإصلاحى للحكومة. البرلمان، أى برلمان، يؤدى وظائفه، وليت برلماننا يؤدى وظائفه كما ينبغى له أن يؤديها. ربما كانت الحكومة، أى حكومة، هى التى تعرقل الإصلاح ببرنامج خاطئ فى منظوره للإصلاح! كل سلطة تؤدى وظائفها كما ينص عليها الدستور لتتوازن السلطات وتتحقق المصلحة العامة. ليس مطلوبا أن ييسر البرلمان للحكومة عملها وإنما أن يضىء الطريق لها بالكشف عن العيوب فيما تقدم من مشروعات قوانين وفى تنفيذها للقوانين السارية.
رفض البرلمان للقانون أثرت فيه احتجاجات الموظفين فى عدد كبير من وحدات الجهاز الإدارى للدولة. بالإضافة إلى أوجه النقص المشار إليها أعلاه وغيرها مما هم أعلم به، فربما دفعهم للاحتجاج والدعوة إلى رفض القانون الشعور بأن الجانب الأكبر من المسئولية عن مشكلات مصر يراد الإلقاء بها على كاهل الجهاز الإدارى للدولة. كأنما كل شىء على ما يرام، الاقتصاد وخصوصا النظام السياسى، ولم يبق إلا الجهاز الإدارى إن انصلح طابت أحوال مصر! المواطنون يريدون خدمات أفضل تقدمها الدولة لهم، لا شك فى ذلك. ولكن الجهاز الإدارى، وعلى سبيل المثال، يستخرج شهادات الميلاد ورخص المركبات والقيادة، ويعلم التلاميذ، ويطعِم الأطفال، ويصرف الأجور والمعاشات، ويفتش على المنشآت، والحياة تسير فى مصر.
هل هى تسير معطوبة، تتقدم حينا وتتعطل أحيانا؟ طبعا. ماذا وفرنا من تدريب ومن أدوات عمل وقبل ذلك من ظروف عمل وحياة للعاملين فى الجهاز الإدارى؟ يرتبط بما سبق ما لا يتوقف تكراره عن تضخم الجهاز الإدارى للدولة. فى الأيام الأخيرة وللمرة الأولى فى نفس هذه الصحيفة وفى غيرها من استنكر ذلك. إن قبلنا رقم الستة أو حتى السبعة ملايين موظف، فإن هذا معناه أنه قياسا بحجم السكان وهو 90 مليونا، الجهاز الإدارى للدولة فى مصر يمثل %7.7. فى السويد والنرويج العاملون فى الجهاز الإدارى فى كل منهما ما بين %16 و%18 من السكان. فى كل بلد السكان يحتاجون إلى خدمات وكلما ارتفعت نسبة الأطفال، وهى حالتنا، أو نسبة الشيوخ، زادت الحاجة إلى خدمات الدولة. حقيقة الأمر أن الخدمات التى تقدمها الدولة للمواطنين تحتاج إلى تحسن هائل. لماذا لا ينص القانون على تخصيص نسبة محددة من ميزانية كل وحدة، وإن كانت ضئيلة، لتدريب العاملين؟
أما النوع الثالث من التعليقات فهو عن المستقبل. فى شهر فبراير ستقدم الحكومة مشروع قانون جديد عن الموضوع ذاته إلى مجلس النواب. من أجل احترام المادة 146 من الدستور، لا بدّ أن تقدم حكومة جديدة هذا المشروع حتى وإن بقى التشكيل هو نفسه، لأن هذه المادة تنص على حصول الحكومة على ثقة مجلس النواب خلال 30 يوما فقط من تكليف رئيس الجمهورية لرئيسها بتشكيلها، والحكومة الحالية تشكلت منذ أربعة شهور. أغلب الظن أن البرلمان سيقبل المشروع الجديد بعد حوار الأزمة المفتعل واللوم الموجه إليه، خصوصا أن الهندسة الانتخابية قد كفلت الحشد البرلمانى دعما للسلطة التنفيذية. لعل هذه الثغرة المؤقتة تذكر المسئولين بالحكمة من وراء تعقد عملية التشريع وتتذكر أيضا من قال: «كن بطيئا فى قيادتك فإنى على عجلة من أمرى»!
***
يبقى فقط أن تعيد الحكومة النظر فى عنوان القانون.«الخدمة المدنية» مصطلح مأخوذ من النظام القانونى الأنجلو ساكسونى، وهو معمول به فى بريطانيا والولايات المتحدة حيث العاملون فى الجهاز الإدارى للدولة هم بالتالى «خدام مدنيون»، فى مصر، منذ ما يزيد على القرن، العمل فى الجهاز الإدارى للدولة هو انخراط فى «الوظيفة العمومية» بلغة زمان فات أو «الوظيفة العامة» بلغة زماننا، والعاملون هم «موظفون عموميون أو عامون»، لأننا استوحينا فى الوظيفة العامة كما فى كل نظامنا القانونى، وما زلنا، النظام القانونى الرومانى اللاتينى، فهل من حكمة لهذا التغير بينما القانون ما زال يتحدث عن «الموظف».
إن لم تكن ثمة حكمة، فالأفضل تجنب التناقضات فى نظامنا القانونى والبلبلة. طالما القانون عن «الموظف»، فليكن إذن قانونا «للوظيفة العامة».
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة