عندما ننجح فى تصدير منسوجات ب 3 مليارات دولار العام الماضى ، ثم نستورد ب 150 مليون دولار سجاجيد صلاة ، فإننا نكون أمام " نكتة إقتصادية بايخة " ، قد تندرج تحت باب " مواقف وطرائف " أو " صدق أو لا تصدق " ، ولكنها لا تمت بأدنى صلة لإقتصاد رشيد يعانى ابناؤه من أوضاع إقتصادية مزرية !
قد لا تتحمل السلطة الحالية فى مصر كل المسئولية عن هذه الأوضاع الإقتصادية العبثية والتى بدأت منذ انفتاح " السداح مداح " الذى ابتدعه الرئيس السادات وتسبب فى نكباتنا الإقتصادية المتتالية ، لكن هذه السلطة تتحمل بالتأكيد مسئولية استمرار هذه الأوضاع التى أوصلتنا إلى حافة الإنهيار الإقتصادى ، والذى واجهته بما اسمته " قرارات مؤلمة " فى تنفيذ حرفى لروشتة صندوق النقد الدولى ، فرض عليها اتباع سياسة انكماشية لعلاج عجز الميزانية وخفض الدين العام ، عبر خطوات تطحن الفقراء ومحدودى الدخل ومعظم فئات الطبقة الوسطى ، برفع الدعم عن السلع الأساسية والخدمات وصولا لبيعها وفقا لسعرها العالمى ،مع ثبات الأجور ، وتعويم العملة الوطنية وتحديد سعر صرفها طبقا للسوق.
فى مثل أوضاعنا الإقتصادية واتباعنا لوصفة الصندوق ، لن تكف ماكينة الغلاء عن الدوران وانتاج الملايين من المعوزين والفقراء ، فالقطاع الإنتاجى سواء الصناعى او الزراعى سيتلقى ضربات موجعة بسبب ارتفاع أسعار مستلزمات الانتاج ، ورفع الفائدة على القروض ، وأسعار الوقود والطاقة وسعر صرف الدولار، وهى كلها أعباء سيتحملها المستهلك النهائى ، الذى يواجه بدوره انخفاضا حادا فى دخله الحقيقى مع ارتفاع الاسعار والتضخم ، يفرض عليه تقليل معدلات استهلاكه ، بما يؤثر ايضا على حركة السوق ، ويصيب القطاع الإنتاجى بالركود ، فى حلقة مفرغة لن يكسرها إلا تضييق الفجوة بين الاستيراد الذى يتعدى حاجز ال 80 مليار دولار ، والتصدير الذى لم يتعد حاجز ال19 مليار دولار ، طبقا لميزانية العام الماضى ، فى نفس الوقت الذى يتوقع فيه خبراء الصندوق أن تتعدى قروضنا المستحقة للخارج حاجز ال 100 مليار دولار فى غضون السنوات الثلاث المقبلة ، لا أحد فى مصر يدرى كيف سنسددها ؟!!
كان أمام الحكومة اكثر من طريق لمواجهة أزماتنا الإقتصادية لو تسلحت بإرادة سياسية تجعلها قادرة على فرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء، بدلا من تحميل الفقراء أعباء ضريبية متتالية ، وتقديم تسهيلات لمئات المصانع الوطنية المتوقفة عن العمل ، بدلا من تقديم كل التسهيلات للمستثمرين الأجانب ، وأن تتدخل أجهزة الدولة المعنية فى توفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين بأسعار التكلفة ، لا أن تتركهم فريسة للقطاع الخاص ، أو أن تدخل فى منافسة معه فى السوق!
الطامة الكبرى التى ستواجهنا خلال السنوات القليلة القادمة هو انهيار شبه مؤكد لكل مجالات صناعتنا الوطنية ، مالم تحدث تغييرات سياسية غير متوقعة ، فمع اتجاه الحكومة لخصخصة المزيد من الشركات والبنوك ، والتى أصبح سعرها ب" تراب الفلوس " أمام المستثمرين أو المغامرين الأجانب بعد قرار الحكومة بتخفيض سعر الجنيه ، سيكون إقتصادنا الوطنى فى يد شركات أجنبية ، أو على الأقل تحت سيطرة رؤوس أموال غربية يستطيع أصحابها ممارسة أى ضغوط سياسية على حكومتنا ،قد تهدد استقلالية قرارنا الوطنى!
لا أدرى كيف تتعامل السلطة فى مصر مع هذه القضايا الخطيرة بهذه الخفة ، السياسات التى تتبعها لا تهدد فقط بافقار غالبية الجيل الحالى من المصريين ، بل تهدد الأجيال القادمة بمجاعات واضطرابات عنيفة ، ومع ذلك فإنها تصر على استبعاد فئات كبيرة من شعبها عن المشاركة فى صنع هذه السياسات ، وتمنع على فصائل المعارضة حقها فى التظاهر السلمى تعبيرا عن رفضه لها ، أو حتى مجرد تعديل مسارها !
النهج الإقتصادى الذى تسير فيه الحكومة سيظل مغلقا بالضبة والمفتاح ، ومالم تبدأ عمليات إصلاح سياسى بشكل عاجل ، فإن كل رهاناتها على صبر المصريين وقدرتهم على التحمل ، ستكون فى أحسن الأحوال مجرد حرث فى البحر !