إنهم يظلمون الوزراء
عبد العظيم حماد
آخر تحديث:
الخميس 30 مارس 2017 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
من الظواهر المتكررة فى الحياة السياسية المصرية ــ إلى حد أنها تكاد تصبح قانونا ــ أن آراء كبار المسئولين قبل توليهم المنصب، وبعد خروجهم منه تختلف عن آرائهم، وتصريحاتهم، وبالطبع عن قراراتهم وهم فى مناصبهم، ومن الظواهر المتكررة أيضا أن عدد كبيرا منهم لا يجد غضاضة، أو حرجا عندما يخالف ما سبق أن كتبه، أو علمه لطلابه وهو أستاذ فى الجامعة مثلا.
حدث ذلك من المرحوم الدكتور رفعت المحجوب، وسلفه فى رئاسة البرلمان كامل ليلة، وسلفهما صوفى أبو طالب وحدث حاليا من الدكتور علي عبدالعال، وحدث ويحدث ذلك من كل رؤساء الوزراء، بمن فيهم الدكتور كمال الجنزورى، أقوى رؤساء الحكومات شخصيةً فى العقود الأخيرة، وبالطبع يسرى ذلك على معظم الوزراء والمحافظين وغيرهم، ونحن هنا لا نقصد لومهم بأشخاصهم، بقدر ما نقصد فهم السياق الذى يجبرهم على هذا التناقض، علَّ ذلك يسهم ــ ولو قليلا ــ فى إصلاح الأحوال.
سيقول البعض، وماذا فى ذلك؟ أليس ثابتا أن الرؤساء الأمريكين، وأعضاء الكونجرس، وغالبية الساسة فى دول أوروبا الغربية ــ أى فى الدول الديمقراطية ــ تختلف آراؤهم وتصريحاتهم قبل المنصب وبعده عنها فى أثناء شغلهم مناصبهم؟
والرد أن ذلك يحدث فعلا فى الدول الديمقراطية، ولكن قياس حالنا على حالهم ينطوى على مغالطة كبرى، فهم هناك يفعلون ذلك لأسباب وحسابات انتخابية، بما أنهم لا يتولون مناصبهم إلا بالانتخاب، أما فى حالتنا فإن اختلاف مواقف المسئولين عندنا وهم فى السلطة عنها وهم خارجها يعود فى الأغلب إلى قانون غير مكتوب فى الدولة المصرية يحتم على المسئول أن يترك خلفه كل ما تعلمه من مناهج التفكير والبحث العلميين، وكل ما آمن به من قواعد المسئولية السياسية قبل أن يدخل غرفة «الكهنوت»، المسماة عندنا بالسلطة أو الحكومة، والذريعة هى الحفاظ على هيبة الدولة، أما الهدف الحقيقى فهو قطع كل أمل للمحكومين فى مساءلة الحاكمين.
وجود هذا القانون هو الذى يفسر إدمان المسئولين عندنا لتكتيك لوم الشعب، وتحميله مسئولية المشكلات العامة، والأوضاع السيئة، من التعليم إلى الصحة، ومن الاقتصاد إلى فوضى المرور.. الخ.
الشواهد على وجود هذا القانون غير المكتوب الذى يمسخ الوزير المصرى كثيرة، وأحدثها ــ قبل أزمة تسمم التلاميذ من الوجبة المدرسية ــ تلك الطريقة الفجة التى تحدث بها وزير الصحة عن مجانية التعليم، والعلاج الطبى تحت قبة البرلمان، فى مغالطة لأبسط قواعد التفكير العلمى الجاد، وكأنه لم تكن هناك حروب عبثية وهزائم نكراء، وقرارات غير مدروسة، وفساد على كل المستويات، بما أدى إلى إهدار موارد الدولة، بدلا من توجيهها للإنفاق على التعليم، والارتقاء به، وبالعلاج الطبى، لكن الاعتراف بهذه الخطايا يعنى تحميل المسئولية للسلطة، أما استهجان مبدأ المجانية فإنه إدانة للمواطنين، وهذا أكثر أمنا، لأن بعض المآخذ السابق ذكرها على الحكومات السابقة لاتزال قائمة حتى يومنا هذا.
كما قلنا فالشواهد السابقة كثيرة.. فالسيدة التى سقطت من دورة مياه قطار الإسكندرية القاهرة لتتمزق تحت العجلات ــ إذا كنتم تتذكرون ــ هى المخطئة، لأنها لم تكن تعرف قواعد استخدام دورات مياه القطارات، وليس السبب هو أن أرضية دورة المياه كانت متآكلة بفعل الصدأ المتراكم دون صيانة دورية، والقائل بذلك هو وزير النقل وقتها، وقطار الصعيد المحترق بين المنيا وبنى سويف فى عهد الوزير إبراهيم الدميرى، احترق لأن «راكبا صعيديا» أشعل «وابورجاز» لعمل كوب من الشاى، على حين أن الدميرى شخصيا كان يعتقد أن الحادث تم بفعل فاعل، كعمل تخريبى انتقاما من تجاوزات بعينها، وأجبر على تقديم استقالته للتغطية على الحادث، وعلى مسئولية الحكومة ككل عنه، وليس مسئوليته هو وحده.
وعندما ضربت كارثة السيول محافظات الصعيد منذ عدة سنوات خلت، تحول الضحايا إلى متهمين، لأنهم بنوا منازل فى مخرات السيول، وكأننا لا نعيش فى دولة، بها قانون، يحتم عليها منع البناء فى هذه المخرات، وإزالة ما بنى بالفعل، فضلا عن مراقبتها، وتطهيرها موسميا، أو على الأقل كان يجب على الدولة أن تعترف بنصيبها من المسئولية، جنبا إلى جنب مع لوم المواطن المخطئ.
وليست كارثة غرق الإسكندرية منذ عامين منا ببعيدة، حينما اتهم مسئولون هناك الإخون بأنهم سدوا البلاعات بكتل خرسانية، وذلك دفاعا عن المحافظ والحكومة.
وأما لماذا لم تعد وزارة الرى تعمل بنظام مناوبات توزيع مياه الرى على الترع الفرعية، لضمان وصول المياه إلى نهايات هذه الترع، ومن ثم استزراع مئات الألوف من الأفدنة العطشى؟ فذلك لأن الشعب المنفلت سرق البوابات الحديدية للقناطر التى كانت تنظم هذه المناوبات، وكأنه لم يوجد لصوص فى مصر إلا الآن، أو كأنه لا يوجد لصوص بين جميع شعوب العالم، والأهم.. وكأن وزارة الرى نفسها لم يكن لديها فى السابق وظيفة اسمها «خفير الرى»، كانت مهمته حراسة هذه البوابات ليس من السرقة فقط، ولكن أيضا من فتحها أو إغلاقها فى غير الأوقات المقررة، أما لماذا ألغيت هذه الوظيفة، فذلك من الأسئلة التى لايرد عليها، اكتفاء بلوم الشعب.
على الرغم من فداحة ما ذكرناه من شواهد على وجود ذلك القانون غير المكتوب بنسيان قواعد التفكير العلمى، والمسئولية السياسية كشرط للاستمرار فى «المنصب السياسى فى مصر»، والمبادرة إلى تحميل الضحية، أو أى طرف آخر كامل المسئولية، فإن هذه الشواهد لا تقتصر على المستوى الوزارى، بل تعدته فى كثير من المناسبات أو المصائب إلى مستوى الرؤساء أنفسهم.
قد يتذكر المخضرمون أن الرئيس جمال عبدالناصر ــ وعلى الرغم من اعترافه بالمسئولية عن هزيمة 1967 ــ أنه عاد بعد خطاب التنحى ليقول: «إننا كنا ننتظر الطائرات من الشرق فجاءتنا من الغرب»، وذلك فى محاولة لاتهام الولايات المتحدة بأنها شاركت الطائرات الإسرائيلية فى قصف المطارات المصرية من القواعد الأمريكية فى ليبيا، وقد قال جمال عبدالناصر ذلك، على الرغم من أنه رفض الاستجابة لطلب عبدالحكيم عامر فى اليوم الأول من الحرب أن يتهم أمريكا بالمشاركة فى الضربة الجوية الإسرائيلية ما لم يأته بدليل، لم يستطع عامر الإتيان به، ولكن فيما بعد كان اتهام أمريكا مفيدا، من باب تبرير ضخامة وهول الهزيمة، وصرف بعض الأنظار عن جرائم القيادة فى حق الجيش والشعب.
وبالطبع يتذكر هؤلاء أيضا إصرار الرئيس أنور السادات حتى اليوم الأخير فى حياته على وصف انتفاضة الخبز يومى 18، و19 يناير 1977 بأنها انتفاضة حرامية، أو أنها من تدبير الشيوعيين على الرغم من أنه ألغى القرارات الاقتصادية التى تسببت فيها، بما يعنيه ذلك من الاعتراف بخطئها، ولكن كان يجب أن تبقى «انتفاضة حرامية»، ومن تدبير الشيوعيين، لأن الرئيس لا يخطئ.
أما حسنى مبارك، فلم يكن ينقصه سوى أن يؤدب التسعين مليون مصرى بالعصا والفلقة، لأنهم السبب فى كل المآسى، وكان دائم التقريع للمواطنين بقوله: «ها جيب لكم منين» ،مع أنه باع الغاز لإسرائيل بأقل كثيرا من سعره الحقيقى، وأثبتت الأيام وجود أرصدة وممتلكات ضخمة فى الخارج له ولأبنائه ولرجاله.
شىء من ذلك يقال الآن مثل «لقد عملت ما علىّ، فماذا فعلتم أنتم؟» وهو ما نتمنى ألا يتكرر.
على أى حال ليس مطلوبا من المسئول المصرى أن يتحول إلى فدائى فى مواجهة هذا القانون غير المكتوب، عندما يصطدم به، فيفعل مثلا ما فعله المرحوم الدكتور حلمى مراد عندما دأب على معارضة عبدالناصر فى مذبحة القضاة وغيرها، حتى ضاق به الرئيس، وأخرجه من الوزارة مغضوبا عليه، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولكن يمكن أن نكتفى فى ظروف السياسة المصرية – بألا يتطوع الوزير بلوم المظلوم، إذا كان عاجزا عن أن يقول للظالم لا تظلم.