عالم رغم كل الظروف
محمد زهران
آخر تحديث:
السبت 30 أبريل 2016 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
قد تشعر أحيانا وأنت تطالع أعمال الكثير من العلماء أن هذا العالم أو ذاك من العباقرة الأفذاذ الذين لا نستطيع أن نصل إلى مستواهم، أو عندما ترى خطواتهم فى الحياة تظن أن الأمور كانت ميسرة وسهلة، مثلا وُلد لعائلة متيسرة ماديا، إلخ.. الناس متفاوتة فى القدرات ولا ننكر ذلك، ولكن أغلب الناس تفشل فى تحديد قدراتها أو تقلل من شأن قدراتها نتيجة الفشل فى مشروع أو بحث، ولكن الحقيقة غير ذلك، فهذا العالم المرموق صادف الكثير من البحوث الفاشلة وذاك فشل فى الحصول على تمويل لمشروعه البحثى أو صادف مشاكل فى حياته العملية، عادة لا يذكر الناس الفشل ويذكرون فقط الناجح من أعمالهم حتى يحافظوا على صورتهم وإن كنت أعتقد أن ذكر الفشل لا يقلل من شأنهم بل يبرز صفة جديدة لهم وهى المثابرة، الكمال لله وحده ولا أحد ينجح دائماً فى كل شئ، من يبرز ويحكى الفشل فى حياته وكيف استفاد منه لا يفيد نفسه فقط بل ويفيد الآخرين أيضا، ولهذا السبب فالمقال الرئيسي فى مجلة هارفارد للأعمال (Harvard Business Review) لهذا الشهر (مايو 2016) هو عن كيفية التعلم من الفشل وتمرير التجربة للآخرين وهذه المجلة من المجلات المرموقة جدا فى العالم فى عالم الأعمال والإدارة، ولهذا أيضا أقدم البروفيسور جوهانز هاشوفر (Johannes Haushofer) على شئ شديد الغرابة هذا الأسبوع من أبريل 2016 وذكرته الكثير من وسائل الإعلام فى أمريكا، جوهانز هو مدرس علم النفس والعلاقات العامة فى جامعة برينستون وهى من الجامعات المرموقة فى العالم، ونستطيع أن نستنتج أن جوهانز عنده سيرة ذاتية علمية رائعة (CV) حتى يتمكن من العمل فى هذه الجامعة العريقة وهذا صحيح، ولكنه وضع أيضا على صفحته على الإنترنت السيرة الذاتية للفشل فى حياته العلمية: الأبحاث المرفوضة من المجلات، الفشل فى تمويل المشروعات البحثية.. إلخ، ليقول للعالم كله أن قدراتك العلمية القوية لا تأتى إلا بمواجهة مصاعب الحياة والتعلم منها سواء مصاعب علمية أو حياتية. وعلى سيرة التغلب على مصاعب الحياة فشخصيتنا اليوم واجهت الكثير من المشاكل المؤسفة فى الحياة ولكنها أصبحت أسطورة!
محمد عبدالرحمن أحمد درى وُلد فى قرية محلة أبوعلى القريبة من طنطا عام 1841، التحق بمدرسة المبتديان وبعد عدة أشهر أغلقها الخديو عباس الأول، وهذه أول مصاعب محمد درى فانتقل إلى المدرسة التجهيزية بالأزبكية ثم مرة أخرى إلى مدرسة أبي زعبل، بعد أن أتم تعليمه الابتدائى والثانوى أدخل المهندسخانة (كلية الهندسة) على غير رغبته فلم يكن هناك مكاتب تنسيق فى هذا الوقت، وهذه صعوبة أخرى فى حياته فقد كان يرغب فى دراسة الطب، وكان ناظر المهندسخانة (أى عميد كلية الهندسة) آنذاك هو على باشا مبارك فذهب محمد درى إليه ليساعده على الانتقال إلى الطب، وجرت محاورة طويلة بين المهندس العظيم والشاب الصغير حول رغبة هذا الأخير عن دراسة الهندسة، وفى النهاية اقتنع على مبارك وسعى لنقله إلى مدرسة الطب، وبدأ الشاب الصغير فى دراسة الطب وأظهر تفوقاً فى الامتحانات ولكن... ألغى الوالى سعيد باشا مدرسة الطب وألحق طلابها بالجيش، وفقد محمد درى الطب والهندسة معا!
للتغلب على تلك المشكلة اتخذ الشاب الصغير قرارين، الأول هو دراسة الطب فى كل ما تصل إليه يداه من كتب والثانى هو تقديم طلب للتعيين ممرضا فى الجيش، وقد كان، وأخذ فى أثناء عمله كممرض يتعلم من الأطباء، إذا الدراسة النظرية فى الكتب والعملية من عمله كممرض (تمرجى). واستمر ذلك فترة حتى فتح سعيد باشا مدرسة الطب مرة أخرى بعد مساع من كلوت بك فعاد إليها محمد درى وأتم دراسته بنجاح ونبوغ فائقين، بل وبعد ذلك أرسل الوالى بعثة من مدرسة الطب إلى فرنسا للتزود بأحدث ما وصل إليه علم الطب وكان محمد درى من أصغر أعضاء هذه البعثة سنا، وفى عهد إسماعيل باشا أدرك هذا الوالى أن أغلب أعضاء البعثة ذهبوا للنزهة وليس للعلم فأعادهم لمصر وترك محمد درى بعد أن علم عن نبوغه، استمر محمد درى فى فرنسا حوالى سبع سنوات ونبغ نبوغا فائقا فى الجراحة، ويقول أحد أساتذته هناك هو البروفيسور أوغست نيلاتون (Auguste Nélaton): "يجب الالتفات لدري المصري والعناية بشأنه لأنه قلّ أن يوجد له نظير في الإقبال على العمل والاستفادة بما يشاهده".
نتيجة لهذا النبوغ الفائق عندما عاد محمد درى من فرنسا شغل منصب كبير الجراحين فى مستشفى القصر العينى وأستاذ الجراحة الأول بمدرسة الطب وذاع صيته فى مصر كلها بل ومنح لقب الباشوية، هذا الذى كان ممرضا فى الجيش!
إذا تجولنا فى بيته سنلاحظ شيئين أولها أن محمد درى كان يقتنى مكتبة علمية نادرة وكان يلجأ إليها زملاءه فقد جعل بيته مفتوحا لكل من يريد طلب العلم، وأحب هنا أن أقول لشباب العلماء أنكم الأن تقتنون مكتبة أعظم مع وجود الإنترنت، فالعلم موجود وعليكم المجهود، وثانى شئ نلاحظه أنه كان يمتلك مجموعة تشريحية قيل إنها لا توجد حتى فى كبار مدارس الطب فى العالم، وهذا يدلنا كيف كان هذا الشاب الرقيق الحال الذى أصبح باشا وطبيب مرموق وتحسنت حالته المادية يصرف نقوده!
وحيث أننا ذكرنا النقود وكيف كان يصرفها فلابد أن نذكر أن الدكتور محمد درى باشا أنشأ مطبعة خاصة لطباعة الكتب الطبية فى حارة السقايين بعابدين وهى (المطبعة الدرية لطباعة الكتب الطبية) ولم تنشر إلا كتابا واحدا فقط خارج فنون الطب عن حياة على باشا مبارك الذى ساعده فى الإنتقال إلى مدرسة الطب.
قال عنه على باشا إبراهيم إنه "سيد الجراحين في زمانه"، وعلى باشا إبراهيم هو نفسه أسطورة وتحدثنا عنه فى مقال سابق، وقال عنه الشيخ علي أبو يوسف الأزهري يمدحه:
لو نلتُ في الدهر ما أبغيهِ لم ترَني ... في مدح من شئت إلا ناظم الدُّرّ
أو كنتُ أدلجتُ في المسرى فليس إلى ... شيء يكون سوى الكوكب الدري
أو أن ألمت بي الأسقامُ في زمنٍ ... لم استطبْ سوى بالماهر الدري
فهو الحكيم الذي لم يشكُ ذو مرضِ ... إلا ونادى به يا كاشف الضرِ
أرجو أن تتذكر هذا العالم العظيم وأنت تسير فى شارع درى بالعجوزة فى القاهرة، أو شارع محمد دري باشا بلوران بالإسكندرية! وأن تتذكر أن النجاح لا يأتى إلى على أمواج من المصاعب والفشل.