فلسطين.. ورهان المواطنة
سمير العيطة
آخر تحديث:
الأحد 30 مايو 2021 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
انفجرت الأوضاع فى فلسطين من جديد وبشكلٍ غير مسبوق هذه المرّة، وبالتحديد فى زمن التغيّرات الكبرى التى تشهدها المنطقة. زمن طيّ الصفحة التى افتتحتها الانتفاضات الشعبيّة عام 2010، والتى سمّاها البعض «ربيعا» والآخرون «خريفا». وكذلك زمن إعادة الحوار بين إيران والولايات المتحدة، وبينها وبين السعودية، كما بين تركيا ومصر. زمنٌ يُعاد فيه تأسيس التوازنات الداخليّة فى كلّ دولة وبين دول المنطقة رغم ما حصل بين تلك الدول من صراعات وما سبّبته من ضحايا.
واضحٌ أنّ أوضاع الفلسطينيين غدت صعبة الاحتمال، خاصّةً فى غزّة، مع انسداد الأفق أمام جميع الفلسطينيين، ليس فقط فى الضفّة الغربيّة، وإنّما أيضا فى أراضى 1948. هذا خاصّةً أنّ «صفقة القرن» أدمَجَت إسرائيل ضمن أفق «زمن الخليج» كما شاع التعبير، وأبعد بكثير ممّا كانت اتفاقيات السلام بين مصر والأردن قد أنتجته وبوتيرة متسارعة.
قد يكون الاستعصاء الانتخابى الذى يواجهه نتنياهو وراء الاستفزاز الذى دفع إليه فى حيّ الجرّاح بالقدس وفى باحة المسجد الأقصى. كما قد يكمُن سببٌ آخر فى رفض الولايات المتحدة لشروطه الإضافيّة حول الاتفاق النوويّ مع إيران فحاول أخذ المنطقة برمّتها إلى حربٍ جديدة. إلاّ أنّ اللافت أنّ الفلسطينيين انتفضوا لقضيّتهم بشكلٍ غير مسبوق على كلّ أرض فلسطين، ما يعود بنا إلى أوضاع ما قبل إنشاء «الدولة العبريّة». بحيث عادت قضيّة الشعب الفلسطينيّ كقضيّة رئيسيّة ليس فقط على الساحة العربيّة بل أيضا الدوليّة. واللافت أيضا هو ذلك الأفق الجديد الذى أرست حماس وفصائل المقاومة فى غزّة أسسه كقوّة عسكريّة وسياسيّة أضحت هى القوّة الأساسيّة فى الصراع الفلسطينيّ ــ الإسرائيليّ حيّدت جانبا سلطة رام الله التى برزت أنّها تنتمى إلى زمنٍ ولّى. كما لفت صمت «حزب الله» وإيران الانتباه خلال الأحداث وكيف تمّ إقرار وقف إطلاق النار بصورةٍ سريعة برعاية الولايات المتحدة كى تُسَلَّم إدارة «إعادة إعمار» غزّة لمصر وقطر معا، بالرغم من خصومتهما المتأصّلة.
هكذا هدأت الحرب وتوقّف قصف الطائرات والصواريخ. إلاّ أنّ انفجارا اجتماعيّا حصل فى أراضى 1948 وما زال يتفاقم بين فلسطينيين عربٍ مسلمين ومسيحيين، يفتقدون للمواطنة الحقيقيّة فى ظلّ «يهوديّة الدولة»، وبين يهودٍ متطرّفين لا مكان للفلسطينيين فى «أرض ميعادهم». وما يزيد من تفاقم الأزمة أنّ أراضى الضفّة الغربيّة أضحت مليئة بالمستوطنات والمستوطنين الذين يقطعون الأشجار ويصادرون الأحجار بحثا عن رموز أرض الميعاد تلك. بالتالى ليس متوقّعا أن تأتى التدابير الأمنيّة والاعتقالات التى تقوم بها إسرائيل فى كلتا المنطقتين بعد حرب الصواريخ الأخيرة سوى إلى مزيدٍ من التفجّر الاجتماعى الداخليّ، ليس فقط بين عربٍ ويهود، ولكن أيضا بين يهودٍ ويهود حول مضمون المشروع «الصهيونيّ» و«يهوديّة الدولة».
***
كان لهذا الانفجار الاجتماعيّ تداعياته، خاصّة فى المجتمعات الأوروبيّة والأمريكيّة. يمينٌ متطرّفٌ نما أكثر فأكثر وانحاز لإسرائيل بشدّة. ومجتمعات وحكومات تناصر قضيّة شعبٍ فلسطينيّ يُعانى منذ زمنٍ طويل وتطالب بحلٍّ يُلغى التمييز ويؤمّن حقوقه، حتّى فى الولايات المتحدة المنخرطة فى أزمة «حياة السود مهمّة». ومن هنا أتت التصريحات الفرنسيّة الرسميّة غير المسبوقة حول دفع إسرائيل للخيار بين حلّ الدولتين وبين «الأبارتايد» (نظام التمييز العنصريّ فى جنوب أفريقيا). وما أقام الدنيا وأقعدها فى إسرائيل.
لكن بانتظار تدهور الأوضاع أكثر وإقامة المؤتمرات الدوليّة بهدف محاولة إيجاد حلّ للقضيّة الفلسطينيّة، لا بدّ من عودة للتفكّر والتأمّل حول الحلول الممكنة غير تلك التى يحلم بها متطرّفو إسرائيل بطرد الفلسطينيين نحو الضفّة الشرقيّة، أى الأردن وزعزعة استقرار هذا البلد. فهل حلّ الدولتين ممكن حقّا وعلى أيّة أرض؟
استغلّ أصحاب القرار فى إسرائيل الزمن منذ اتفاقيّة أوسلو لجعل المناطق الفلسطينيّة فى الضفّة الغربيّة جُزرا محاطةً بأسوار عالية ضمن بحرٍ من المستوطنات ومناطق انتشار الجيش، وتركوا غزّة سجنا كبيرا لملايين، مع عزلها عن الضفّة. هذا عدا ضمّ القدس التى تبقى قضيّة جوهريّة فى الصراع. هكذا لو افترضنا تبادلا للأراضى لإقامة دولة فلسطينيّة ذات سيادة على أرضها سيتمّ طرح قضايا إزالة مستوطنات كما قضايا المساواة الكاملة فى المواطنة لعرب «الدولة اليهوديّة».. وكذلك المساواة فى المواطنة لليهود على أرض الدولة الفلسطينيّة. هذا يعيد إلى الواجهة الحلّ الآخر للقضيّة وهى دولة المواطنة المتساوية الواحدة للعرب واليهود على كافّة أرض فلسطين، ما كان أساسا طرح منظمة التحرير الفلسطينيّة منذ البداية.
***
بالطبع يتطلّب كلا الحلاّن وقتا، وأن يفرز التفجّر الاجتماعى والآلام الذى ستتبعه لدى الفلسطينيين والإسرائيليين سويّةً تيّارات فكريّة وسياسيّة تتجاوز الاستعصاء القائم والهروب الإسرائيليّ دوما إلى الأمام عبر استخدام القوّة لفرض رؤية لن يقبل بها.. التاريخ. ذلك أنّ دولةً لطائفةٍ أو لفئة بعينها نقيضُ لتاريخ المنطقة.. وكذلك لمستقبلها. نقيضٌ لدولٍ ذات تركيبات اجتماعيّة معقّدة مثل لبنان وسوريا والعراق والأردن والسعودية والبحرين واليمن والسودان والجزائر والمغرب فحسب، بل أيضا لتركيا حيث لا بدّ من حلٍّ لقضيّة الهويّة الكرديّة، وكذلك لإيران التى هى أيضا متعدّدة الهويّات.
منذ سبعينيات القرن الماضى، تمّ زجّ المنطقة فى صراعٍ طائفيّ شيعيّ ــ سنيّ عبثيّ، غيّب فيها لعقود قضيّة المواطنة المتساوية وكذلك فلسطين، المرتبطتين فى جوهرهما. إلاّ أن التطوّرات الأخيرة أعادت قضيّة المواطنة المتساوية إلى الواجهة، ليس فقط فى منطقتنا، بل أيضا فى الولايات المتحدة وأوروبا ــ «صروح الديموقراطيّة» ــ مع ما تحمله من مخاطر كبيرة لنموّ اليمين المتطرّف وتحكّمه فى الساحة السياسيّة. ولم تكُن ظاهرة الرئيس ترامب سوى إحدى تجليّات ذلك اليمين. كذلك تبرز قضيّة المواطنة أيضا فى الهند وباكستان وغيرهما.
هكذا تبرز أهميّة طيّ صفحة الصراع الشيعيّ ــ السنيّ ضمن إعادة صياغة توازنات المنطقة. وعودة جميع الدول هنا لتبحث فى صلب تكوينها عن مقوّماتٍ لعيشٍ مشترك لشعوبها تحترم الخصوصيّات والتعدديّة. بتعبيرٍ آخر كى لا تتلاعب بها «الدبلوماسيّات الناعمة» ويأتى الاستقرار.
لقد تمّ استخدام الصراع السنيّ ــ الشيعيّ لتحويل حركات شعبيّة انتفضت أصلا بحثا عن الحريّة والمواطنة المتساوية إلى صراعات فئويّة وحروب إقليميّة بالوكالة. ربّما أتى اليوم زمن طيّ صفحة كلّ هذا الدمار العبثيّ. المشكلة المعضلة هى أنّ الحريّات والمواطنة فى المنطقة، كما فى فلسطين، ما زالت تبحث عن قادة فكرها وعن أنموذجٍ يفتح أملا وأُفقا لكلّ أبناء «الشرق الأوسط» المعنى. هذا لا يعنى التخاذل أمام الاستبداد والاستكبار بل مزيدا من المقاومة والجهد من أجل قضيّة الإنسان. وفلسطين والفلسطينيّون عبرة لمن يعتبر.