الزواج من المغتصبة لا يلغي العقوبة
جيهان أبو زيد
آخر تحديث:
الإثنين 30 مايو 2022 - 10:10 م
بتوقيت القاهرة
نعود مرة أخرى للمساحة الضبابية، للظل الذى يولد من النور ثم ينكره ليطل علينا فى رداء رمادى حاجبا الرؤية والتفاصيل والأهم حاجبا عنا الأفق.
نعود إلى بيع كرامة الإناث تحت زيف السُترة، وتحت وطأة ثقافة تجد من يُشعل فتيلها ليُبقيها حية ويُبقى الإناث هشة مغبونة. نعود إلى ما قبل عام 1999 حين تكللت جهود مخلصين ومخلصات بإقرار قانون يجرم الاغتصاب ويلغى الإعفاء من العقوبة فى حالة الزواج من المغتصبة. أُعتبر هذا الإلغاء حينها إنجازا بينا وإحقاقا للعدالة. بادرت مصر آنذاك بإلغاء تزويج المغتصبة للإفلات من العقاب ولحقتها بعد أعوام عدة دول المغرب ولبنان والأردن وفلسطين وتونس.
لكننا استيقظنا لنجد إعلانا عن مصالحة قيد الاتفاق لتحويل جريمة اغتصاب وخطف فتاة مطروح القاصر إلى زواج بعقد عرفى تعيدنا مرة أخرى لخطر التضحية بتفعيل القانون مهادنة لممارسات موروثة تهدر جهودا متفانية تعاونت فيها مؤسسات الدولة والمنظمات الأهلية لحفظ كرامة وأمن نساء مصر، فالقضية المنظورة أمام الدائرة الثانية بمحكمة جنايات مطروح والتى ثبتت فيها التهمة وفقا لاعتراف المتهم وشهادة الشهود وتقرير الطب الشرعى، قد تتناثر أوراقها بموجب ورقة الزواج العرفى المدعومة باتفاقات مالية ذُكر أنها قد تبلغ 900 ألف جنيه.
• • •
تُطلق العودة إلى التراث العرفى عِوضا عن إعمال القانون أسئلة بوزن القنابل عن: جدوى القانون إذا كانت الأعراف مازالت هى المعتمدة كقاطرة للعدالة؟ عن الجرائم سهلة الغُسل التى ينتفض عنها الجرم بموجب ورقة وشهود؟
تفجر القضية سؤالا كبيرا حول أمن النساء سهل المنال وأمن الطرقات خاصة فى المناطق النائية وعلى أطراف المدن، تبعث القضية بسؤال عن الخوف الذى ينتشر بين الأسر وبين النساء خاصة، عن الطرق التى لا تسير بنا للمستقبل بل التى تشغلنا بانتظار الخطر وتوقعه ومحاولة تجنبه، ترسل القضية ذاتها برسالة تحريض للآباء لبناء مزيد من الجدران حول بناتهن.
يتعارض الصلح المزمع مع نص المادة (80) من دستور عام 2014، والتى تقر بالتزام الدولة بحماية الطفل دون سن الثامنة عشرة عاما من جميع أشكال العنف والإساءة وسوء المعاملة والاستغلال الجنسى والتجارى. والسؤال: على من تقع مسئولية حماية تلك الطفلة إعمالا للنص «التزام الدولة بحماية الطفل»؟
يكشف نص الخبر المنشور بجريدة الشروق بتاريخ 26 مايو عن تدخل المحكمة للصلح عوضا عن تجريم الاغتصاب (حكمت محكمة جنايات مطروح، اليوم، برئاسة المستشار بلال أبوالسعود بتأجيل النطق بالحكم فى قضية خطف واغتصاب قاصر، لجلسة 18 يونيو المقبل، على أن يتم التوافق بين الطرفين بالتصالح بشرط عقد زواج وشبكة ومهر يبلغ 900 ألف جنيه. وتبين للمحكمة حضور المجنى عليها وولى أمرها بالجلسة المنعقدة، وناقشت المجنى عليها بحضور والديها؛ من أجل التنازل والصلح والعدول عن الأقوال الثابتة بأوراق القضية).
وبافتراض أن جريدة الشروق تحرت الدقة فى نشر الخبر السابق، فإن الخبر يصنع فى صيغته المذكورة ارتباكا حول إعمال قانون الدولة ويدفعنا للبحث عن العلاقة بين القضاء الرسمى والقضاء العرفى؟ يوضح المفكر المصرى نبيل عبدالفتاح فى دراسة بعنوان (القانون العرفى ومجالس الصلح والطائفية) عام 2016، أن الأحكام العرفية، تستند إلى وجود بعض القواعد العرفية التى تراكمت وشكلت عُرفا بات سائدا. ويؤكد فقهاء القانون أن العرف كمصدر تاريخى ظل مستمرا فى إطار ثنائية قانونية وقضائية سادت بين النظم والقواعد والآليات الرسمية، واللارسمية. الأمر الذى قُدر بأنه أحد أكبر الأعطاب الماسة بسيادة القانون، فى إطار الدولة الحديثة، وتُشكل العودة إليها خاصة فيما يمس بحقوق الإنسان وصون كرامته ومواطنته تراجعا عن القيم السياسية والدستورية التى تضمنها دستور مصر.
• • •
تتحمل الفجوات بين بعض المنظومات القانونية الرسمية، وبين الواقع الاقتصادى والاجتماعى والثقافى السائد فى البلاد بعضا من المسئولية فى استمرار العمل بالأحكام العرفية.
كما يُحمل وزر الانتقال المنقوص للحداثة قدرا من المسئولية أيضا، فالنص القاضى بتزويج ناجية الاغتصاب من مغتصبها يعود بأصوله للقانون الجزائى العثمانى المستمد من قانون العقوبات الفرنسى، لكن المحتل القديم الذى غادرنا قبل ما يزيد على مائتى عام مازال حاضرا بنصوص صدئة ما ننفك نتحرر منها لنجد من يعيد إحكامها. تؤكد الباحثة ساندى باردسلى فى كتابها «أدوار النساء فى العصور الوسطى» والصادر عام 2007، أن النص الفرنسى العتيق إنما يعود للقرون الوسطى. ورغم إقرار نص قانونى يجرم الاغتصاب عام 1999، فالقضية الراهنة تؤكد أن الاتجاه لتزويج المغتصبة مازال قائما وبقوة فى الثقافة الراهنة ولا تتبناه فقط الأسر المعنية بل وأيضا بعض المعنيين بتفعيل القوانين.
لا تدفع معاجلة تزويج المغتصبة بالمجرم إلى تعزيز الإباحة، بل وإلى الترويج للخطف والاغتصاب الذى يكافئ بالزواج عوضا عن الحبس، كما تُقوض تلك المعالجة من أسس مواطنة النساء وتطعن كرامتهن ليبدو التعدى والاغتصاب كأفعال قابلة للتمرير بسند ثقافى وقانونى، بدون الانشغال بمستقبل المغتصبة وصحتها النفسية والبدنية وعلاقتها التى انتفت للأبد بالأمان، خَسرت تلك الطفلة أمانها الشخصى وأغلب الظن سيتوقف تعليمها وستتجمد علاقتها بالحياة لدى حادثة الاغتصاب.
نحن بحاجة إلى مراجعة قانونية شاملة فى ضوء المتغيرات الراهنة، فى ضوء سعى الدولة إلى تعزيز مواطنة متساوية تحفظ أمن وكرامة الجميع بدون تمييز، نحن بحاجة إلى البحث عن الأسباب الموضوعية التى تُعزز بقاء تلك الممارسات وتقاوم فرص تغييرها، نحن بحاجة إلى إشراك الجميع فى عملية تطوير القوانين ليتبناها المجتمع بكل شرائحه فلا تهبط عليه من أعلى، فبدون حوار مجتمعى جاد لن تَنفذ القوانين إلى قلب المجتمع وعقله وستظل غريبة عنه يقاومها كلما تجلت فرصة سانحة.