عن مواجهة الحروب الاقتصادية
محمود محي الدين
آخر تحديث:
الخميس 30 مايو 2024 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
يعانى العالم حروبا اقتصادية وليست تجارية فقط بين القوى التقليدية والقوى الصاعدة. فالتجارة الدولية فى تراجع وسلاسل الإمداد اعترتها مربكات القيود التجارية الجمركية وغير الجمركية، والنظام الدولى المتعدد الأطراف يعانى وهنا واستضعافا على النحو الذى تشهده منظمة التجارة العالمية من أزمة تعوقها عن القيام بعملها الذى أسست من أجله. فآلية فض المنازعات الدولية معوقة عمليا منذ عام 2018، وأتت الاجتماعات الوزارية الدورية للمنظمة على مدار السنوات الماضية بأقل من التوقعات رغم تواضعها، فلم تشهد مجالات الإصلاح الرئيسية جديدا فى ما يتعلق بقواعد التجارة الدولية، والشفافية ونظم الإخطار، وفتح أسواق جديدة، وفض المنازعات.
وعلى سبيل التذكرة، لم تكن لتتمكن بلدان عالم الجنوب من تحقيق ما أنجزته فى التنمية ومكافحة الفقر وزيادة الدخول منذ التسعينيات من القرن الماضى، إلا بفضل التوسع فى تجارتها الدولية تصديرا واستيرادا لمكونات الإنتاج ودفعا لآليات المنافسة فى تحسين نوعية السلع والخدمات؛ وهو ما جذب إليها استثمارات محملة بتمويل لمشاريعها ومعارف وفنونا إنتاجية متطورة.
وإذا ما كانت منافع التجارة الدولية، التى يجرى إهدارها اليوم، متحققة للاقتصادات الأكبر حجما فلا غنى عنها للبلدان التى تعانى صغر الأسواق وضعف اقتصاداتها بما لا يمكنها توليد فرص عمل أو زيادة دخول سكانها اكتفاءً بمواردها المحلية. فلا بديل لها عن زيادة فرص التصدير والاستثمار لدفع النمو، ولن تعالج إجراءات إحلال الواردات فى علاج اختلالات موازين التجارة والمدفوعات إلا فى القطاعات التى تتمتع بها البلدان بمزايا نسبية وتنافسية ممكنة لها من ذلك. وبعد عقود من اتباع بلدان نامية سياسات شعبوية تحت مسميات مثل «من الإبرة إلى الصاروخ» لإنتاج أى شىء وكل شىء بدعايات طنانة ومبادرات متهافتة من دون دراسات للجدوى، لم تحصد إلا تراجعا فى الأداء الاقتصادى ومزيدا من العجز التجارى والاستدانة الدولية. على عكس ما تحقق للبلدان التى اتبعت سياسات صناعية فى إطار استراتيجيات متكاملة للتنمية بتمويل منضبط لاستثماراتها حقق لها نموا مطردا تراكميا لم يقل عن 7 فى المائة فى المتوسط هيأ لها الانتقال من حدة الفقر المدقع إلى مراتب متقدمة فى الاقتصاد العالمى.
ولكن ما هى الفرص المتاحة اليوم مع ما يشهده العالم من حروب اقتصادية؟ فساحات الحروب الدولية تجاوزت التجارة إلى الاستثمار الأجنبى المباشر بزيادة موانعه، كما انتقلت إلى تحجيم فرص التعاون التكنولوجى بما فرضته قوانين بمنع صريح للمشاركة فى مجالات بعينها لتعويق فرص المنافسة. فما يعرف بالسياسة الصناعية الجديدة المتبعة مؤخرا فى البلدان المتقدمة صاحبتها إجراءات معوقة للتجارة والاستثمار، بل والتدريب والتعاون الفنى واستقدام العمالة. وتنوعت المبررات لهذه الإجراءات بين دوافع الحفاظ على الصدارة، والتصدى لتغيرات المناخ، وتمتين سلاسل الإمداد التجارية، واعتبارات الأمن القومى والتحديات الجيوسياسية. ومن القطاعات الإنتاجية التى تشهد أكثر من غيرها مظاهر الحروب الاقتصادية الصناعات التكنولوجية المتقدمة، وأشباه الموصلات والرقائق، والمعادن الحيوية، والصلب والألومنيوم، والصناعات الدوائية، والمنتجات المنخفضة الكربون، والأنشطة ذات الاستخدام العسكرى والمدنى المشترك.
فى ظل هذه التطورات المحتدمة للحروب الاقتصادية العالمية وتزايد الأزمات وانهيار الثقة وما يعانيه الاقتصاد العالمى من تفتيت، يستلزم التحرك على أربعة مستويات:
أولها يبدأ بإدراك أن تقدم اقتصاد الدولة يكون من داخلها، وهو حصيلة تفاعل لمؤسساتها وسياساتها وأسواقها. فإذا ما تراجعت فاعلية المؤسسات فافتقدت متطلبات الحوكمة والحكمة فى إدارتها، وإذا ما اضطربت السياسات العامة فغاب التنسيق بينها واختلطت أدواتها بأهدافها بلا وضوح لأولوياتها، وإذا ما أهدرت كفاءة الأسواق فاختلت فيها قواعد المنافسة وتماهت أدوار القطاع الخاص مع وظائف الحكومة وتوابعها بلا ضوابط، فأنى يتحقق التقدم المنشود؟
ثانيها يأتى بالتمسك بالعلاقات الثنائية القائمة التى تجمع بين الدول وشركائها الاقتصاديين والبناء عليها، وألا تؤخذ باعتبارها من مسلمات الماضى، مع ضرورة مراجعة مدى توازن العلاقات فى مكوناتها وإشراك القطاع الخاص فى دفعها.
وثالثها يتحقق بإحياء محاور التعاون الإقليمى؛ فعلى مدار الشهر الحالى استضافت الرياض والكويت والقاهرة ونيروبى تجمعات إقليمية اقتصادية ومالية بدأت باحتفاء بنك التنمية الإسلامى فى الرياض بمرور 50 عاما على تأسيسه بما يضمه من 57 دولة حول العالم. ثم استضافت الكويت اجتماع مؤسسات مجموعة التنسيق العربية ولجنة المساعدات الإنمائية لمنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، ثم استضافت القاهرة اجتماع الهيئات المالية العربية، وانعقد الاجتماع السنوى الستون لبنك التنمية الإفريقى فى العاصمة الكينية نيروبى. وفى هذه التجمعات فرص واعدة تمنحها مناطق الجوار الجغرافى.
ورابعها يتمثل فى توطين التنمية بإيلاء الأولوية للاستثمار فى القرى والمدن بتطوير رأس المال البشرى والبنية الأساسية والتكنولوجية ومجالات الاستدامة والاقتصاد الأخضر.