ليست مجرد انتفاضات جامعية
محمد رءوف حامد
آخر تحديث:
الخميس 30 مايو 2024 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
بالرغم من أن انتفاضات الجامعات الأمريكية قد جذبت (وما زالت تجذب) انتباه عموم الناس فى كل أرجاء العالم، إلا أن مكانتها، فى ضوء انعكاساتها الممكنة على الأوضاع الأمريكية والدولية، تستدعى الإبحار أكثر وأكثر فى معانيها ومستقبلياتها.
لقد ضمت هذه الانتفاضات أساتذة إلى جانب الطلاب، كما أن أحداثها تماست وتقاطعت مع مواطن خلل تعترى الشأن العام فى الولايات المتحدة وفى العالم أجمع، فضلا عن امتداد إشعاعاتها إلى جامعات غربية أخرى.
التميزات النوعية الجديدة
تميزت انتفاضات الجامعات الأمريكية عن كل الانتفاضات الشبابية المعاصرة. أنها لا تختص بمصالح فئة معينة من الشباب، مثل التظاهرات الأمريكية الرافضة للتجنيد فى حرب فيتنام (ستينيات القرن الماضى)، ولا تتشابه مع موقف الشباب المصرى من أسباب الهزيمة فى معركة مع العدو، كما كان الحال (فى 24 فبراير 1968) بشأن ما عُرف برفض أحكام الطيران، وكذلك لم تنشأ نتيجة لسأم الشباب من تقليدية ممارسات السلطات، كما كان شأن تظاهرات الشباب الفرنسى (مايو 1968).
لقد جاءت الانتفاضات الجامعية الأمريكية كتعبير إنسانى راق فى الحس بالمسئولية، وعميق وشامل فى رفض هيمنة التآمرات الإسرائيلية والدولية ضد الحق الفلسطينى.
عمليا، تساهم هذه الانتفاضات فى التدشين لما طرأ فى أعقاب 7 أكتوبر 2023 من اتجاه لإحداث انقلاب تصحيحى لما يسود العالم من ظلاميات. إنه الاتجاه الذى صار من شأنه، ولأول مرة، بدء التعامل مع محاكمات دولية وإجراءات عقابية لإسرائيل.
فى نفس الوقت، جاءت انتفاضات الجامعات الأمريكية فى توافق مع ما قد بدأ يطرأ على المجتمعات الأمريكية من تصاعد للإدراكات بشأن مواطن الخلل فى النظام السياسى. هنا تجدر الإشارة إلى تصورات سابقة، من خارج وداخل الولايات المتحدة، تتعلق باحتمالية تعرض الشارع السياسى الأمريكى للتغيير (مستقبل جديد للثورات ــ ثورة المفكرين ــ موقع الحوار المتمدن ــ 2 فبراير 2013/ العدد 3991، وكذلك كتابا لبيرنى ساندرز B. Sanders ــ «مستقبل للإيمان بثورتنا» ــ 2016، و«رؤية إرشادية للثورة السياسية» ــ 2017).
أما عن موقع انتفاضة الجامعات الأمريكية من الزمن فقد جاءت بعد نجاح تراكمية النضال الفلسطينى على مدى حوالى قرن، ووصوله ــ كمقاومة ــ إلى منظومية ثورية، وذلك بالتشابكية بين الضرورة والمعرفة العلمية والحق الإنسانى (المنظومة الجديدة للثورة ــ الأهرام ــ 10 أكتوبر 1988)، الأمر الذى قد تجسد لاحقا فى منصة «7 أكتوبر 2023» وتتابعاتها.
وهكذا، «الثورة الفلسطينية» من جانب، وتصاعد الإدراكات لعوار الشأن العام الدولى من جانب آخر، قد حوّلا العالم، ليس فقط للإيمان بالحق الفلسطينى، وإنما أيضا لاشتداد الحاجة إلى معالجة عورات النظام الدولى. من هنا، تمثل الانتفاضات الجامعية الأمريكية مساهمة نوعية بالغة الدلالة، محليا، وعالميا.
السبب فى أن الانطلاقة كانت أمريكية؟
لكن يبرز تساؤل استراتيجى: لماذا بزغت هذه الانتفاضات، بداية، فى الولايات المتحدة بالذات؟!
ربما تكمن الإجابة فيما تمثله أمريكا بكونها القوة العالمية الأكبر فى البطش، سواء فى دعمها لإسرائيل بشأن اغتيال الحق الفلسطينى، أو بخصوص أدوارها الأخرى فى العديد من البلدان، كالعراق وأفغانستان وأوكرانيا، أو باعتبارها صاحبة أكبر شبكة للقواعد العسكرية فى كل مناطق العالم.
إضافة إلى كل ذلك، للإدارة الأمريكية الريادة فى ابتداع «تلبيس» ممارساتها، المضادة لمصالح الشعوب، بمفاهيم مزيفة. من أمثلة ذلك مفهوم «الفوضى الخلاقة»، والمشتق من نظرية للعالم الاقتصادى جوزيف شومبيتر (1883 ــ 1950)، والتى تُعرف بالهدم البناء Creative destruction. ومن الثابت أن ليس لنظرية شومبيتر علاقة بالسياسة، حيث تختص بالمتغيرات الاقتصادية المصاحبة للتطوير التكنولوجى، ذلك بينما قُصِد بالتحريف الأمريكانى تسويغ ممارسة «هدم الدول».
سر عنف الإدارة الأمريكية ضد الانتفاضات الجامعية
هذه الأمور، توضح الهيمنة العليا لـ«فكر القوة» فى الممارسات الأمريكية. فى المقابل، لم يتوقع الكثيرون أن تمارس السلطات الأمريكية فكر القوة هذا (وبعنف بالغ) ضد طلاب وأساتذة جامعاتها.
هنا يأتى الإدراك بأن جدلية فكر القوة ــ بطبيعتها ــ ترفع من قدر التطرف فى تكريس الفكر لصناعة القوة. ذلك يعنى تزايد التنامى للفكر المدعم لفكر القوة. إنه «فكر فكر القوة». هذا التنامى يصعد بالممارسات الفيزيائية للقوة إلى أعلى مستويات الشراسة (والهمجية). ذلك أن فكر القوة لا يستجيب إلا للأفكار التى تدعم ممارسة القوة، مما يؤدى إلى غرق السلطة (الأمريكية هنا) فى دوامة التصاعد لكل من «قوة فكر القوة» والتوجهات (أو الأفكار) التى ترفع من قدر هذه القوة، أى «فكر فكر القوة».
من جنون القوة إلى قوة الفكر
هكذا جدلية توصل من يخضع لها إلى «الجنون» ( أى «جنون جدلية فكر القوة»)، تماما كما هو حال ممارسات الإدارة الأمريكية ضد القانون الدولى، وكما هو حال ممارسات الكيان الإسرائيلى المتواصلة (والفوق خيالية) لإبادة غزة، شعبا ومكانا.
وهكذا، أدت حدة الانحرافات فى الجدلية الذاتية لفكر القوة، أمريكيا وإسرائيليا، إلى بزوغ الانتفاضات الجامعية (الجماعية)، والتى جاءت كمدخل (أو كعنوان) لمعادل موضوعى من نوع جديد، أمريكيا وعالميا، وهو «قوة الفكر».
المسألة إذن أن الانتفاضات «الجماعية» فى الجامعات الأمريكية تمثل الولوج إلى «قوة الفكر».
بمعنى آخر، يكون الجديد الذى تجسده انتفاضة الجامعات الأمريكية هو كونها نموذجا تمهيديا لممارسة قوة الفكر (من جانب الكيانات الأكاديمية) فى مجابهة فكر القوة، القادم من منصات السلطات السياسية (بجناحيها الإدارى والبوليسى). وعليه، يمكن الفهم، وعدم الاستغراب، بخصوص ممارسات السلطات الأمريكية لعنف فكر القوة فى مواجهة الملامح البازغة لقوة الفكر، والقادمة من الكيانات الجامعية، والتى تخطت أعدادها المائة جامعة.
ما يجدر هنا الانتباه إليه أن الانتفاضات الجامعية الأمريكية، كمدخل لممارسة قوة الفكر، تتكامل مع مجمل الخبرات والاتجاهات الفكرية والسياسية التى كانت قد بدأت فى الظهور منذ فترة بشأن انتهاء صلاحية النظام السياسى الأمريكى القائم على لعبة الكراسى الموسيقية بين حزبين سياسيين يتناوبا السلطة، تحت المظلة الحارسة للنظام السياسى، والمتمثلة فى القوى (والمصالح) الرأسمالية.
أيضا، يجدر الانتباه إلى أنه بالإضافة للتلامس بين الانتفاضات الجامعية من جهة، والممارسات الفكرية الناقدة للنظام السياسى الداخلى فى أمريكا، من جهة أخرى، فإن الطلاب الممارسين لهذه الانتفاضات سيكونون، عاجلا أم آجلا، من أصحاب الأصوات الانتخابية، وبالتدريج سيكون من بينهم قياديون، فى كل الكيانات والمؤسسات الأمريكية.
تضاريس صراعية عالمية من نوع جديد
ربما تكون هكذا تطورات معضدة ــ فى عزمها ــ لمسارات توليد المعرفة الإنسانية التغييرية الجديدة، والتى تحتاجها الشعوب لضبط مساراتها فى مجابهة تضافريات قوى التسلط والهيمنة على عموم مصالح البشر. إنها القوى التى تتجسد تحديدا فى معايير الرأسمالية الشرسة، وفى النزعات الصهيونية، وفى سلوكيات التطرف (كراس «مستقبل جديد للثورات ــ المكتبة الأكاديمية ــ 2019»).
المسألة إذن أن انقلابا سياسيا عالميا يبزغ الآن، من منصة الحق الفلسطينى، لمجابهة قوى التسلط على العالم. بداية النشأة لهكذا مسار، بالاعتماد على ممارسة قوة الفكر فى مجابهة فكر القوة، يمكن أن تكون علامة على فاعلية نهج حداثة ما بعد الحداثة (كراس: المستقبل بين فكر القوة وقوة الفكر ــ المكتبة الأكاديمية ــ 2006).
يبدو إذن أن ظلاميات الأوضاع الدولية والسياسات المهيمنة قد أدت إلى بدء تشارك عموم الناس العاديين وأصحاب الحق، وفى قمتهم طلاب وأساتذة مؤسسات جامعية كبرى (إضافة إلى ما جرى إعلانه مؤخرا من اعتراف حكومات غربية بفلسطين كدولة)، فى الإقدام على ممارسة قوة الفكر فى مواجهة هيمنة أنانيات وانحرافيات أصحاب فكر القوة (كنموذجى الإدارة الأمريكية والكيان الإسرائيلى).
بمعنى آخر، أدى الاستيعاب العالمى المتصاعد للحق الفلسطينى إلى بزوغ (أو يقظة) قوى إنسانية عالمية جديدة تنتبه إلى (وترفض الانصياع) لعورات دولية مزمنة صنعتها غُلبة (أو طغوة) تحالفات قوى الأنانية والهيمنة على الشعوب، شمالا وجنوبا.
هكذا مشهد صراعى/ عالمى يدفع إلى التفكر بشأن ما يمكن أن يكون من دور للفكر الإنسانى التغييرى فى مجابهة قوى التسلط على العالم، سواء من حيث طموحات وإمكانات وأدوات هذا الدور، أو من حيث ما يمكن أن يجابهه من عراقيل والتفافات.
وهكذا يمكن القول بأن الإنسانية مقبلة على تضاريس صراعية عالمية من نوع جديد، حيث الصراع لن يكون بالضرورة بين الدول وبعضها، بقدر ما يكون ــ فى الأساس ــ بين عموم الناس العاديين فى كل (أو معظم) شعوب العالم (ومن يمثلونهم من منظمات أهلية وكيانات فكرية/ أكاديمية)، من جانب، وقوى التسلط العالمى من جانب آخر.