الهجرة تهدد التكامل الأوروبى

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 30 يونيو 2018 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

بعض الاتجاهات السياسية فى عدد كبير من الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى، بعد أن كانت هامشية ومنبوذة فى مجتمعاتها، اكتسبت أمكنة فى قلب النظم السياسية لهذه الدول. أقصى اليمين الأوروبى كانت أفكاره وممارساته فى الثلاثينيات من القرن العشرين سببا فى مذبحة الحرب العالمية الثانية التى راح ضحيتها فوق الخمسين مليونا من الأوروبيين، وذلك بخلاف قمع المعارضين واضطهاد الأقليات من اليهود والغجر ومحرقتهم. كان أسوأ ما ترتب على حكم أقصى اليمين القومى والعنصرى الألمانى ما لحق بالشعب الألمانى ذاته وبألمانيا نفسها من تدمير وخراب واحتلال وتقسيم. لم يكن النازيون وحدهم. أقصى اليمين الفاشى الإيطالى وصل إلى الحكم فى العشرينيات وكان دليلا للنازيين ومثلهم تسبب فى احتلال بلاده بعد الحرب. حكومات لأقصى اليمين فى وسط أوروبا وفى شمالها آزرت النازيين بعد أن احتلوا بلادها. لكل ذلك، اعتبر أقصى اليمين القومى اتجاها سياسيا مدمرا وانفض عنه حتى من كانوا قد سقطوا أسرى لخطابه المدغدغ لمشاعر التفوق الكاذب، والمتسبب الحقيقى فى الدمار. السطور السابقة كانت لمجرد بيان الأسباب الموضوعية التى جعلت من أقصى اليمين أقلية هامشية فى البلدان الأوروبية بعد إنهاء الحرب العالمية. تراجعت أيضا الحركات الشعبوية فى أوروبا منذ ذلك الوقت لأنها هى الأخرى تدغدغ المشاعر الجمعية غير عابئة بقيمة الأفراد ولا بالحسابات السياسية والاقتصادية. فى المقابل تعززت تيارات الليبرالية السياسية واليسار الديمقراطى فى غرب وشمال أوروبا وأنشأت لشعوبها دول الرفاه الاجتماعى، وفى وسط وشرق أوروبا قامت الأنظمة الشيوعية حتى سقطت بعد أربعة عقود.
***
غير أنه ها هى الشعبوية تعود ومعها أقصى اليمين! خريطة مبسطة لمجمل الساحة السياسية الأوروبية فى الوقت الحالى، دون الدخول فى التفصيلات فى كل دولة، تبيّن أن القوى الأكبر فيها هى وسط اليمين ينافسه الشعبويون وأقصى اليمين. هؤلاء موجودون فى قلب الأنظمة السياسية فى هولندا وبلجيكا والدنمارك وفنلندا والسويد وفرنسا بل وفى ألمانيا نفسها. التفصيلات تكشف أن أقصى اليمين والشعبويين قد نجحوا فى تولى الحكم فى النمسا وإيطاليا، فضلا عن اشتراكهم فى الحكومات أو فى ائتلافات تساندها فى بلجيكا وفنلندا والدنمارك، دعك من سطوة أفكارهم التامة على الحكم فى المجر وبولندا والتشيك وسلوفاكيا المعروفة بمجموعة فيسيجراد.
كيف اعتلى أقصى اليمين الجدران حتى أشرف على المشهد السياسى الأوروبي؟ فَعَلَ ذلك متسلِّقا حبل الهجرة. فى سنتى 2015 و2016، انتقل إلى أوروبا ما يقرب من المليون ونصف المليون طالب لحق اللجوء ومهاجر لأسباب اقتصادية. طالبو حق اللجوء كان أغلبيتهم، وإن لم يكن كلهم من سوريا، وهؤلاء وصلوا إما برّا عن طريق تركيا ثم دول البلقان، وإما بحرا عابرين المسافة القصيرة بين الساحل التركى والجزر اليونانية، عازمين فى الحالتين على التوجه إلى شمال القارة، ناجحين فى ذلك أحيانا ومخفقين فى أحيان أخرى. المهاجرون لأسباب اقتصادية أغلبهم كانوا من إفريقيا، خاصة من غرب ووسط قارتنا، والبعض من شبه الجزيرة الهندية، والبعض من دول البلقان فى نفس أوروبا. الصادرون من بلدان شمال إفريقيا، ومنها مصر، قلة بين المهاجرين لأسباب اقتصادية. من لم يحصلوا على فرص للعمل وللهجرة النظامية وهم الأغلبية الساحقة، لجأوا إلى عبور البحر المتوسط فى مراكب متهالكة مكدسة غرق الكثير منها وفقد الآلاف أرواحهم معها.
الخلافات بين أعضاء الاتحاد الأوروبى عندئذ بشأن مواجهة ما اعتبروه «أزمة» حادة تواجههم كانت شديدة. تراوحت المواقف ما بين الانفتاح على قبول طالبى اللجوء مثلما كانت الحال فى البداية فى ألمانيا والسويد والرفض التام لقبولهم، وعنصرية حكومات بعض الدول مثل المجر. ما يهمنا اليوم، لأغراض التكامل الأوروبى هو أن هذا الرفض اقترن برفض ثان من جانب مجموعة فيسيجراد للتضامن مع الدول الأعضاء الأخرى فى الاتحاد الأوروبى والتى يصل إليها العدد الأكبر من طالبى اللجوء بسبب موقعها الجغرافى، مثل اليونان وإيطاليا، والتى تضطرها قواعد العمل داخل الاتحاد، المعروفة بلائحة دبلن، لأن تعالج طلباتهم وأن تأويهم حتى يجرى التحقق من مبررات طلبات لجوئهم.
رفض التضامن ما بين دول الاتحاد بالإضافة إلى خطاب الترويع من طالبى اللجوء والمهاجرين، والذى استمرّ حتى بعد أن انحسرت «الأزمة»، يفسرّان معا عودة أقصى اليمين والاتجاهات الشعبوية إلى قلب الساحة السياسية. خطاب الترويع يلقى دعما وترويجا على الساحل المقابل للمحيط الأطلسى فالرئيس الأمريكى، النشيط فى التآلف الشعبوى واليمينى المتطرف والسلطوى، يدّعى أمام مستمعيه الأمريكيين أن فى ألمانيا «وباء إجراميا» نتيجة لوجود المهاجرين فيها، غير مكترث البتة بالبيانات الصادرة فى نفس أسبوع خطابه والتى أفادت بأن عدد الجرائم فى سنة 2017 كان فى أدنى مستوياته منذ سنة 1992. النزعة العنصرية فى الخطاب تجدها فى تصريح زعيم حزب الرابطة الإيطالى الذى صار وزيرا للداخلية فى يونيو الماضى عندما قال إنه لا بدّ من تنظيف إيطاليا من المهاجرين شارعا فشارعا، وأنه سيعمل على طرد خمسمائة ألف مهاجر غير نظامى إلى خارج البلاد. المفارقة هى أن من نعوا على التكامل الأوروبى انعدام تضامنه، أصبح خطابهم مشابها لخطاب من رفضوا هذا التضامن.
***
انحسار «الأزمة» واضح فى أن من يصلون بحرا إلى أوروبا فى تراجع مستمر نتيجةً للسياسات التى صاغتها حكومات يمين ويسار الوسط المتمسكة بالتكامل الأوروبى، وهى سياسات يمكن أن تكثر انتقاداتنا الموجهة إليها، إلا أنها كانت فعالة من وجهة النظر الأوروبية الصرف. وصل 247,000 شخص إلى أوروبا بحرا فى سنة 2014، ارتفع عددهم إلى 1,1 مليون فى سنة 2015، ثم انخفض إلى 360,000 فى سنة 2016 و172,000 فى سنة 2017 وإلى 43,000 حتى نهاية يونيو من هذا العام. وصل إلى الشواطئ الإيطالية 150,000 شخص فى سنة 2015، وهم لم يتعدوا حتى الآن فى سنة 2018 الـ17,000 شخص. فى ألمانيا، قدّم 62,000 شخص شهريا فى المتوسط طلبات للجوء فى سنة 2015، أما الآن فالمتوسط الشهرى أقل من 15,000. أين «الأزمة»؟ فى المقابل، بلغ عدد الغرقى والمختفين منذ سنة 2014، 16,000 شخص. فى تعبير مراقب أوروبى، إن كانت ثمة أزمة فهى أزمة إنسانية!
ومع ذلك يستمر خطاب الترويع من اللاجئين والمهاجرين لأنه حاملة أقصى اليمين القومى، ومعه الشعبويون، إلى هدفهم السياسى، وهو استعادة سطوة أفكارهم وأيديولوجياتهم القومية على الساحة الأوروبية. الاتفاق منعقد بين أغلب الاتجاهات الحاكمة فى أوروبا، إن لم يكن كلها، على تقليص عدد اللاجئين والمهاجرين الذين يصلون إلى قارتهم. هم فى ذلك يطرحون أفكارا وأحيانا يسلكون سبلا تسىء تفسير حركة البشر وأسبابها وطرق التعامل معها، ويستخدمون قوتهم السياسية فى غير محل استخدامها، ويخرجون على روح القانون الدولى. لأنه لا بدّ من القول بأن ضغط أقصى اليمين قد حرّك كل الساحة السياسية يمينا. ومع ذلك، تبقى مسألتان جوهريتان تفصلان بين حكومات أقصى اليمين والشعبوية المذكورة أعلاه، وحكومات يمين ويسار الوسط وإن ببعض التباينات.
****
القمة غير الرسمية للاتحاد المنعقدة يوم 24 يونيو لم تصل إلى شيء محدد وإن لم تظهر فيها خلافات حادة. هذه الخلافات كانت متوقعة فى القمة الرسمية المنعقدة يومى 27 و28 يونيو فى بروكسل بشأن النقطتين المحددتين، ألا وهما توزيع طالبى اللجوء الذين يصلون إلى دولة أوروبية مثل إيطاليا على جميع الدول الأعضاء، أى التضامن فيما بينها، ثم حرية انتقالهم بعد ذلك بين هذه الدول. حرية الحركة مبدأ أساسى فى كل عملية التكامل، وعرقلتها بالنسبة للأجانب هى عرقلة لحركة مواطنى دول الاتحاد أنفسهم. حتى كتابة هذا المقال، لم تتضح كل نتائج القمة وإن كان قد أعلن عن التوصل إلى اتفاق بين المجتمعين على توزيع طالبى اللجوء على الدول الأعضاء بشكل طوعى لا قسر فيه، وعلى إنشاء مراكز استقبال فى جميع الدول الأعضاء التى تقبل ذلك طواعية، وعلى النظر فى إنشاء مراكز تتوجه إليها المراكب الحاملة لطالبى اللجوء فى دول غير أعضاء، تحت إشراف المفوضية السامية للأمم المتحدة للاجئين، يتم فيها فحص طالبات اللجوء، وهى فكرة كانت المغرب قد رفضتها علنا وكذلك ليبيا. يلاحظ الطابع الطوعى للمطلوب من الدول الأعضاء وهو عكس منطق التكامل الأوروبى الذى يقضى بأن يكون الاتفاق ملزما، إن تم التوصل إليه وإن بصعوبة، وهو ما يحدث فى كثير من الأحيان.
الطوعية هى طريق لتفادى الصدام. الصدام أيديولوجى بين أقصى اليمين، ومعه الشعبويون، الذى يريد استعادة السطوة لأفكاره، كما سبقت الإشارة، وقوى الوسط من يمينه إلى يساره المتمسكة بالتكامل الأوروبى المتخطى للقوميات سبيلا إلى تفادى مصير الصدامات القومية بين نفس أولئك الذين يربطهم اليوم العداء لطالبى اللجوء والهاجرين ونزعاتهم العنصرية. أغلب الظن أن تفادى الصدام مؤقت.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل صرحت قبل القمة الأخيرة بأن «أوروبا تواجه كثيرا من التحديات ولكن تحدى الهجرة هو الذى يمكن أن يقرر مصير الاتحاد الأوروبي».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved