تحركى يا مصر
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 30 يوليه 2015 - 9:44 ص
بتوقيت القاهرة
لم تغب عن بالى للحظة واحدة خلال الأيام الأخيرة عبارة وردت فى حديث لمدير الاستخبارات الأمريكية. قال السيد جون برينان إن السياسة الخارجية يمكن أن تتسبب أحيانا بضرر يصيب الأمن القومى. جدير بالذكر أن المجلس الأمريكى للشئون الخارجية، أحد أجهزة المجتمع المدنى المتخصصة فى السياسة الخارجية والمستقلة عن الدولة، لم يترك هذا التصريح يمر دون إعلان احتجاجه، وإن بأناقة.
•••
لن أكون الكاتب السياسى الوحيد فى مصر الذى حذر مرارا خلال أكثر من عقدين من الضرر الذى يمكن أن يصيب الأمن القومى لدولة ما بسبب تدخل أجهزة بيروقراطية أخرى غير وزارة الخارجية فى صنع «سياسة خارجية» مستقلة وتنفيذها بدون التشاور مع الفروع الأخرى للأمن القومى.
•••
فى مناسبة أخرى، توقفت طويلا أمام الرسالة التى نشرها الأمير بندر بن سلطان، السفير الأسبق للسعودية فى واشنطن، وصاحب الخبرة والعلاقات الوطيدة مع كثير من كبار موظفى البيت الأبيض. اهتمامى بالرسالة يعود إلى عبارة وردت فيها تنقل عن هنرى كيسنجر، صديق الأمير، حسب قوله، تحذيره من خيانة الدولة الصديقة، فضررها أكبر وأخطر من الضرر الناتج عن أعمال عدائية تقوم بها دولة غير صديقة.
•••
أذكر جيدا أنه فى لقاءات خاصة مع وزراء خارجية مصريين تولوا مسئولية الدبلوماسية المصرية خلال العقدين الأخيرين أعربوا عن استنكارهم لتشبث أجهزة فى الدولة المصرية بصنع سياسة خارجية لا تحظى بالرضاء العام الإقليمى والداخلى. ساد الشعور وقتها بأن قوى داخلية وخارجية تحاول قدر استطاعتها عزل مصر وتجميد نشاطها الإقليمى وإقامة جدار نفسى يحرمها من ممارسة حقها فى المشاركة فى الجهود المكثفة الساعية فى ذلك الحين لتشكيل «بيئة أمنية إقليمية» جديدة فى الشرق الأوسط.
•••
لم يكن متاحا بالشكل المناسب داخل «مجتمع السياسة الخارجية»، وأقصد به جميع الأجهزة والجمعيات والخبرات المتخصصة فى عملية صنع وتحليل القرار فى الشأن الخارجى، أقول لم يكن متاحا التفكير بصوت عال وأسلوب علمى ورؤى مستنيرة وجريئة فى مستقبل مصر الإقليمى. جرت محاولات ليست قليلة لتحريك ركود السياسة الخارجية المصرية وحلحلة العلاقات بين أجهزة صنع السياسة بعد أن تيبست، لصالح فكر جديد ومرونة تستحقها المرحلة، ولكن دون جدوى. تكسرت جميع المحاولات على صخرة موقف عنيد يرفض الحركة ويحذر من الابتعاد قيد أنملة عن الحاضر الساكن والمتحجر، ويكاد يكفر كل من يجازف بالتفكير فى مستقبل لدور مصر ومكانتها الخارجية، أرادوا، فيما يبدو، الحفاظ على الأمن الداخلى وتحصينه ضد تداعيات أى تغيير فى موقع مصر أو فى جانب من جوانب سياستها الخارجية. وأظن أن هناك من يحاول حتى الآن إعادة فرض هذه السيطرة.
•••
ندفع الآن ثمنا باهظا للتجاهل الذى أحبط معنويات أفراد السياسة الخارجية المصرية وكياناتها. مصر الآن ضحية اقتناع ساذج فرض علينا الركون مطمئنين إلى صداقات دول إقليمية وعالمية. ركدت حركتنا ورقد تفكيرنا وتركنا الإقليم يتشكل من حولنا ولكن بعيدا عنا، قطعة قطعة ولاعبا لاعبا، ونحن مستمتعون بأوهام «الصداقات الدولية»، وبخاصة صداقات دول كان الظن أنها لن تتخلى عنا. دول عظمى طلبت من أصدقائها الالتزام والطاعة والاطمئنان، بينما راحت ترتكب أخطاء جسام استفاد منها خصومها، الذين صاروا بسبب انجرافنا فى صداقات غير ذات معنى عميق أو هدف قومى أصيل، خصوما لنا وراحوا يحملوننا مسئولية ما ارتكبه أصدقاؤنا الكبار.
•••
لم ندرك فى الوقت المناسب، أو بالذكاء المناسب، أن حروب أمريكا كانت فى بعض الأحوال مفيدة لآخرين. الحرب فى أفغانستان أفادت الصين التى سوف تعتمد على كنوز المادة الخام المختزنة فى بطون جبالها بعد انسحاب قوات الحلف الغربى. كذلك قدمت أمريكا لإيران العراق هدية لا أثمن منها بعد حرب أهلكت العراقيين وضعضعت قواهم وشتتت وحدتهم وأجبرتهم على قبول أى بديل. اصطف العرب وراء التدخل العسكرى الأمريكى فى العراق عملا بواجب الصداقة، فخسروا العراق. واصطف الأفارقة خلف الولايات المتحدة لتقسيم السودان فخسروا جنوب السودان ويخسرون دارفور. كنا أكرم أمم الأرض فى تعامل حكامنا مع الولايات المتحدة حتى راحت فلسطين، وأفاق عرب كثيرون، لم يعرفوا فى العالم غير أمريكا صديقا، على اقتناع أن واشنطن خدعتهم فى صفقتها الإيرانية.
•••
نكتشف الآن أننا أهملنا فى حق مصر ومكانتها، حين طبق بعض حكامنا بأمانة أو سذاجة، معايير الصداقة الدولية، ليعيشوا فى آمان تحت حماية أمريكا، أو ليعيشوا فى رغد معونة سنوية لا أظن ان الشعوب استفادت الكثير منها، أو أنها، أى المعونة، طورت مفاهيمنا الاستراتيجية نحو الأكفأ والأحسن، أو أنها عوضتنا عما خسرناه سياسيا بسببها على كل المستويات. ليس هذا على كل حال صلب موضوع حديثنا اليوم، إنما هو التزامنا لسنوات بل عقود عديدة بالاصطفاف وراء واشنطن وأصدقائها ضد إيران. التزمنا العهد، وكانت النتيجة أننا نقف الآن فى آخر صف من دول بعضها كان نبيها ومتنبها لهذا اليوم، يوم ترفع فيه عن إيران العقوبات وتصبح سوقا شاسعة للصادرات والواردات وتسعى لممارسة نفوذ على مساحات واسعة أن هى أطلت غربا نحو الشرق الأوسط، أو أطلت شمالا وشرقا نحو وسط آسيا وجنوبها.
•••
أعيب على هؤلاء الذين كانوا فى مراكز القوة وصنع السياسة فى مصر على امتداد عقدين أو ثلاثة، هؤلاء حرموا الدبلوماسية المصرية من ممارسة حقها فى الاستعداد لهذا اليوم. أعيب عليهم أنهم تركونا، شعبا ومفكرين ومثقفين وخبراء، بعيدين عما يحدث فى إيران. ابتعدنا عن إيران بقوة وقوى الأمر والنهى. ابتعدنا عن كل مصادر المعلومات عن التقدم النووى والعلمى والالكترونى والسياسى الإيرانى. ابتعدنا عن فرص التعمق فى فهم طرق التفكير الإيرانية سواء ما اكتسبته من ماضٍ طويل فى الدبلوماسية والخبرة فى الشئون الآسيوية، وما اكتسبته فى ظل حكم مستقر ومحافظ، ولكن متحفز للتقدم العلمى والاستراتيجى. ابتعدنا عن تقدير التفاصيل الضرورية فى عمليات صنع السياسة والقرار فى إيران عندما ابتعدنا عن الاختلاط بخبرائهم ومفكريهم. حرمونا، خوفا علينا من الفتنة الشيعية، وهى التى لم تكن يوما تمثل جزءا مهما فى تفكيرنا السياسى أو الدينى ولا تمثل أى خطر على هويتنا أو عقيدتنا المصرية.
ألوم كل من حاول ان يخفى عنا حقائق إيران، بسلبياتها وإيجابياتها، لأنه كان السبب فى أن جاء يوم يتفاجأ فيه المحلل السياسى المصرى، وبشكل أخص، صانع القرار السياسى بحقيقة لم يدرك من قبل عمقها، وهى أن المجتمعات السياسية الخليجية قد لا تكون كما كنا نراها على البعد وحدة متطابقة السياسات والأهداف والعلاقات الخارجية.
حدث ما حدث الأسبوع الماضى. حدث هرج ومرج شديدان فى سوق السياسة العالمية بعد الإعلان عن التوصل إلى اتفاق مع إيران، فإذا بالنقاش فى مصر يتدهور إلى مستوى من يحاول الإجابة بسرعة على أسئلة بدائية. أسئلة من نوع: أين نحن فى مصر من هذه «المواقف» الخليجية؟ كيف نلحق بركب سريع الخطى لنقترب من ايران؟ نسأل ونكرر السؤال، ماذا أعددنا عبر عشرين عاما أو ثلاثين لهذا اليوم؟ ونسأل هل مسموح لنا بوقت نحشد فيه خبراء مصريين فى الشئون الاقتصادية والعسكرية الإيرانية؟ نسأل، متى نحاسب أنفسنا على سنوات ضاعت بسبب القمع والنفاق وتضخيم التهديدات الأمنية، وبسبب التدخل فى صنع السياسة الخارجية من جانب أطراف لها مصالح أخرى، أو بأحسن الكلمات، لها رؤية خاصة جدا للأمن القومى المصرى يثبت لنا الآن أنها أضرت ضررا جسيما بأمن مصر وسلامتها ومكانتها.
•••
لكل هذه الأسباب غبنا، وفى غيابنا تشكلت بيئة أمنية إقليمية مختلفة عن كل ما عهدناه من قبل. تدخلت أطراف عديدة لتملأ فراغ القوة الاستراتيجية. ظهرت على الساحة فى كل الإقليم وبحشد كثيف وتمويل هائل جماعات وميليشيات دينية متطرفة. عاد الإخوان وظهر داعش والنصرة وفجر الإسلام..وعشرات أخرى. هذه هى الكيانات التى شاركت بنصيب وافر فى تشكيل البيئة الأمنية الاقليمية الجديدة، وهى نفسها التى اجبرت مؤسسات العمل العربى المشترك على الانزواء حتى تقوم هى أولا وتهيمن وتسيطر. بمعنى آخر النظام الإقليمى العربى يعاد تشكيله حول هذه الكيانات والميليشيات الإرهابية، وما السعى لإنشاء قوة أمن عربية سوى محاولة متأخرة جدا لإثبات رفض النظام العربى الرسمى لقيام نظام بديل.
•••
أتصور، أو أتمنى أن تتحرك مصر فى الأيام القادمة بنية ثابتة نحو اصلاح بعض ما فسد. وأظن أنها سوف تلجأ إلى مسارين لتتحرك عليهما، مسار سريع للحاق بمن سبقونا من دول العالم وسرعة أبطأ مخصصة للتعامل بمنتهى الكفاءة والدقة مع حساسيات واستراتيجيات دول إقليمية أخرى، سوف يتعين على مصر أن تعيد بسرعة فتح ملفات علاقاتها بإيران. كان الأمل لدى قوى محددة أنها لن تفتح هذه الملفات مرة أخرى إلا يوم يتقرر اختفاء إيران الإسلامية من خريطة الشرق الأوسط، أو يوم انفراط المذهب الشيعى واختفاء آثاره فى كل أنحاء المشرق والشرق الآسيوى. أعرف أن فى هذه الملفات ما يشجع على التفاؤل بالنسبة للسلام الإقليمى والأمل فى قيام وئام وعلاقات طيبة بين الفرس والعرب.
كان لمصر الصناعة والسياسة جولات ناجحة فى إيران، وكان للعمل المالى والمصرفى محاولات جادة لإقامة تعاون جيد. وكان للخلفية الثقافية المصرية والدينية تراث حافل لدى الإيرانيين شعبا وحكومة. كل هذه الملفات وغيرها تسمح لمصر ان تعد العدة لتقوم بدور هى الوحيدة، فى اعتقادى، المؤهلة له، وهو إبعاد عفاريت المذهبية عن مسارات العلاقات العربية الإيرانية.
كذلك فإنه لدى مصر العزم، والعزيمة أيضا فيما اعتقد، على عدم الزج بنفسها طرفا «متطرفا» أو شديد الانحياز فى هذا الخلاف. لدينا من الجروح الأليمة التى خلفتها حرب ضد الإرهاب، ما يجعلنا نصمم كلاما وافعالا تفيد فى تفكيك الرابط الخبيث القائم حاليا بين بعض حكومات الإقليم والكيانات الإرهابية والمتشددة. أعرف أن مصر لم تحاول إلا نادرا استخدام الإرهاب والكيانات المتطرفة كأداة فى صراعاتها الخارجية. لذلك اعتقد انه سيكون مطلوبا منها دفع الاطراف المتورطة فى علاقات مع قوى متشددة أو إرهابية التحرر من ارتباطاتها وقطع الأموال والسلاح عنها وعن غيرها من قوى التعصب، والتركيز على ضرورة تشكيل بيئة أمنية إقليمية جديدة.