على حافة المدينة القديمة
نبيل الهادي
آخر تحديث:
الخميس 30 يوليه 2020 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
تطرح مشاريع البنية الأساسية والمشروعات الأخرى التى تبنى بالقرب أو بداخل حدود المدن القديمة إشكالية أكبر من مجرد تغيير النسيج العمرانى القائم ربما تتعلق بوضع كيفية تناول ليس فقط أماكن معينة من المدينة ولكن ربما بكيان المدينة ككل. وذلك لأن المساس بالحواف هو أيضا مساس بالمدينة القديمة والتى هى بمثابة النواة الأصلية فى العديد من مدن العالم اليوم وهو الجزء الذى يحتفظ بالارتباط المتواصل سواء المادى أو الزمنى لمجتمع المدينة.
وحافة المدينة القديمة تمثل مكانا حساسا وحرجا من حيث إنه يقع حرفيا بين عالمين لا يمكن تجاهلهما. حيث تمثل حافة المدينة القديمة حدود النطاق العمرانى والثقافى للمدينة القديمة أى أنها نهاية النظام البنائى للمدينة القديمة والمتمثل فى عمارة المبانى التاريخية والنسيج التاريخى الذى يحمل سمات وثقافة المجتمع لهذه المدينة. أما العالم الثانى فتطور وظهر بنتاج قوى التحديث المختلفة. فى أحيان عديدة كانت تلك الحواف مثل الأسوار تهدم أو تطمس وفى البعض الآخر كانت تترك فى الأغلب جزئيا لسبب أو لآخر.
***
ولكن هل هما فعلا عالمان أم عوالم عدة؟ تشير الدراسات التى تمت على قلعة صلاح الدين إلى أنها نتاج لعصور وتراكمات عدة من وقت إنشائها الأيوبى للإضافات المملوكية سواء الجركسية أو البحرية ثم الإضافات العثمانية وحتى عصر محمد على وكلها متجاورة بدون مشاكل ظاهرة. انظر أيضا لصحراء المماليك وهى تضم بين جنباتها أيضا مقابر بعضها من عصر المماليك وبعضها من عصور أحدث كما تضم أيضا بعضا من أول ما يعرف بالإسكان غير الرسمى فى القاهرة والذى لا يزال يعيش به عدد برغم أن قل كثيرا فى العقدين الماضيين إلا أنه لا يزال الكثير من الناس يعيش به أيضا. ولو نظرت نظرة شمالية شرقية لوجدت على بعد قريب العمران الذى بدأه الخديو عباس متداخلا معه امتدادات أخرى أحدث. ولو نظرت فى اتجاهات أخرى لرأيت كيف أن العمران الذى بدأ فى كل مكان قريب من تلك المنطقة له رواية وتاريخ مركب وربما لا نزال فى حاجة ماسة للاطلاع عليه بصورة أفضل والتعلم منه.
فى أوائل النصف الثانى من القرن العشرين كتبت جين جاكوبز وهى إحدى أهم منظرى العمران المعاصر عن أهمية التنوع للمدينة وكيف أن الإبقاء على القديم بجوار الحديث يخلق فرصا اقتصادية مهمة بالإضافة للتنوع الاجتماعى والعمرانى الضرورى للمدينة. وفكرة التنوع تلك هى فكرة مهمة للغاية لأننا يمكن أن نربطها بالتنوع البيولوجى الذى يوفر فرصة للعديد من الكائنات بالتواجد معا ودعم بعضها البعض بما يمكن الحياة أن تستمر بصورة أكثر استدامة.
تغيرت حالة حافة المدينة القديمة وخاصة فى مدن العالم النامى أو الآخذ فى النمو طبقا لطبيعة القوى المؤثرة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وفى مدننا اليوم والتى لم يتبقَ فيها إلا جزء محدود من الحواف الواضحة للمدينة التاريخية. فإن ضغوط ومتطلبات التنمية المتلاحقة والمتسارعة قد تدفع السلطات أو المعماريين أو حتى مجتمع المدينة إلى عدم إعطاء الأهمية الواجبة والدراسة المتعمقة لتلك المناطق الحساسة من مدننا وتمثل تلك المناطق تحديا كبيرا للمجتمع وخاصة الممتهنين للعمران والبنية الأساسية.
***
كانت حركة الحداثة العمرانية فى الغرب فى مطلع القرن العشرين موجهة أساسا ضد الظلم الاجتماعى والطراز الأكاديمى للقرن التاسع عشر الذى حاول أن يخفى أو يطمس إنجازات الثورة الصناعية خاصة فيما يخص المواد الجديدة والميكنة وذلك عن طريق التركيز على إحياء الطرز التاريخية. فى مقابل الظلم والطمس تمسكت الحركة فى المقابل بالعقلانية والكفاءة والوظيفية وأكدت على المساواة واستحقاق الإنسان للحياة الصحية. كانت الحركة كما يقول أحد أشهر نقادها حركة «النوايا الطيبة» والتى ربما لم تكن كافية للتعامل مع تعقيدات وتحديات المجتمع واحتياجات أفراده المختلفين.
اقترح بعض رواد الحداثة بعض التدخلات فى المدن القديمة مثل باريس وغيرها والتى لحسن الحظ لم تنفذ وبقيت المدينة القديمة أو أجزاء منها على الأقل ويكاد يكون من غير المتصور الآن إمكانية قبول تلك المقترحات لو اقترحت ثانية.
لماذا إذًا يردد البعض لدينا إعادة عمل ما ثبت أنه لا يستقيم مع دعم الحياة والتنوع فى المدينة. لا شك لدىّ أن أحد مبررات التدخلات الحديثة وخاصة بالصورة التى لا يوافق عليها الكثيرون إنما جاءت فى ظل الضغوط المتعجلة للتنمية أو أحلام القادة ووعودهم للجماهير بسرعة التغيير والتى تجاهلت أن التطور بحاجة لوقت ودراسة ونقاش مجتمعى وأنه لا بد من إعطاء الفرصة للتطورات الطبيعية وحوارات تحديد المصير الناشئة من داخل المجتمع. وأحد تلك النقاشات الواجبة هى عن التراث الكبير مساحة وتاريخا وعددا وهل هو حافز أم عائق أمام التنمية والازدهار الذى يستحقه أفراد المجتمع. وهل يمكن فهم الحاضر بدون معرفة بالتراث وتقاليده ليست فقط معرفة نظرية ولكن معرفة مرتبطة بالخبرة والحواس أى أن يكون جزءا من حياتنا اليومية فى وجوده فى مختلف الأماكن فى مدينتنا.
لقد أظهر التاريخ العمرانى فى القرنين الماضيين أن التجديد والتجريب المعمارى والعمرانى والمجتمعى كان غالبا ما يتم تخيله وتصوره فى المناطق الطرفية من المدينة. وعلى كل حال فإن المناطق التاريخية للمدينة مع التنمية اللاحقة فى القرن التاسع عشر والقرن العشرين قد أوجد فراغا عمرانيا ومناطق لا شك أنها تمثل إمكانية عمرانية ومجتمعية. والسؤال هو هل يمكن توظيف تلك الإمكانية فى تخيل علاقة أكثر إبداعا بين العوالم المختلفة سواء القديمة حتى وإن أدى ذلك لنوع من التوتر الإيجابى وهل يمكن أن تصبح حواف المدينة القديمة أماكن ليس فقط للحفاظ على القيم المعمارية وذاكرة المدينة ولكن أيضا لدعم النمو المستدام للمدينة من خلال دعم التنوع الضرورى للحياة؟.