أحمد مرسي.. الفولكلوري الأصيل (2)
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 30 يوليه 2022 - 7:05 م
بتوقيت القاهرة
الدنيا شينة غدارة..
تسقى الحلو بعد مرارة
لا فرح ولا حزن دايم..
(من تراث الأغنية الشعبية)
( 1 )
كل من مرَّ بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة يعلم جيدًا أنه ينفرد بمجموعة من السمات والخصائص المنهجية والتاريخية التى تميزه عما عداه من أقسام اللغة العربية فى أى جامعةٍ أخرى. لا أقول هذا من باب الفخر والاعتزاز والاعتداد بهذا الانتساب (وإن كان بعض الفخر والاعتزاز فى هذا الزمان مطلوب ومهم وضرورى)؛ أبدًا، إنما أذكره من باب التأكيد على الحقائق والبديهيات التاريخية، ومن باب توثيق وتسجيل وإثبات الدور النهضوى العظيم الذى لعبه هذا القسم فى دائرة دراسة الأدب والنقد، ومنهما إلى الثقافة والفكر والتأثير فى المجتمع ككل. وبالتالى فقد تجاوز دور قسم اللغة العربية وآدابها تدريس الأدب والنقد وتاريخ الأدب العربى إلى دراسة إشكالات الفكر المصرى والعربى الحديث، ولم ينقطع هذا الوصل منذ تأسيسه وحتى وقتنا هذا.
كان قسم اللغة العربية الحاضنة الشرعية لميلاد (ظهور) تخصص الأدب الشعبى، والدراسات الشعبية فى الجامعة المصرية، حينما ناقشت سهير القلماوى رسالتها للدكتوراه عن (ألف ليلة وليلة) سنة 1943 بإشراف طه حسين. ثم ناقش الرائد الفولكلورى الكبير عبدالحميد يونس رسالته للماجستير عن (سيرة الظاهر بيبرس) ثم الدكتوراه عن (الهلالية فى التاريخ والأدب) بإشراف أمين الخولى.
وعلى هذا، فقد تمثلت بدايات درس الأدب الشعبى فى الاهتمام بنصوصه «المدونة»، مثل «ألف ليلة وليلة»، و«كليلة ودمنة»، و«السير الشعبية» العربية المدونة، لكنها سرعان ما تحولت إلى الاهتمام بالنصوص الشفاهية على يد أحمد مرسى، كما يسجل ذلك تلميذه النابه خالد أبوالليل.
( 2 )
أحمد على مرسى، هو الابن البكرى لرواد وأساتذة الأدب الشعبى فى قسم اللغة العربية من الرعيل الثانى، إذا جاز التعبير، كان أصغر من يناقش الدكتوراه فى وقته (سنة 1969 وكان عمره آنذاك تسعة وعشرين عاما) وكان أول من يقدم جهدا ميدانيا حقيقيا فى مجال الدراسات الشعبية والأدب الشعبى (كانت رسالته عن الأغنية الشعبية فى منطقة البرلس، جمعا ميدانيا وتحليلا نصيا)، وبهذا استحق أحمد مرسى ريادة مبكرة ستضعه على رأس مدرسة الاهتمام بالمأثور الشفاهى فى المقام الأول، ومدرسة الجمع الميدانى ليس فقط فى الجامعات المصرية بل العربية أيضًا.
ويعتبره تلميذه خالد أبوالليل أول من تمت على يديه «النقلة على نحو أكاديمى بـ الاهتمام بالنصوص الشفاهية (وجمعها ميدانيا وتحليلها).
( 3 )
وخلال الفترة من مطالع السبعينيات وحتى نهاية القرن العشرين؛ قدَّم أحمد مرسى للمكتبة العربية عامة، وفى حقل الدراسات الشعبية بخاصة، عددًا من الكتب والمؤلفات والمترجمات وضعته فى مصاف أهم أساتذة هذا التخصص بغير منازع فى الثقافة العربية؛ سواء فى الجانب المنهجى والتنظير للجمع الميدانى من خلال كتابه التأسيسى (أعتبره لا غنى عنه لكل مقبل على دراسة الأدب الشعبى والمأثور الشفاهي) وهو كتاب «مقدمة فى الفولكلور» (1995)، وهو بحق من أفضل المداخل المكتوبة باللغة العربية التى اهتمت بتأصيل دراسة المأثورات الشعبية المصرية والعربية، وقد خصص القسم الأول من هذا الكتاب للتأصيل النظرى لعلم الفولكلور، عالميا وعربيا، فيما خصص القسم الثانى لآليات الجهد الميدانى، وإجراءاته وخطواته، وجمع المادة وترتيبها وتصنيفها وأرشفتها.
أو من خلال ترجمته الرصينة لكتاب يان فانسينا المرجعى «المأثورات الشفاهية» (1999) والذى ركز جهده فى تقديم أحدث ما وصلت إليه مناهج دراسة الفولكلور والنظريات الحديثة فى معالجة هذا الجانب، فى الجمع الميدانى وتحليل النصوص، وقد قدّم أحمد مرسى لترجمته بمقدمة تفصيلية تعد نموذجا للدراسة والتحليل والتأصيل النظرى والمنهجى، (وهى من الدراسات المبكرة التى اهتمت بعلم التاريخ الشفاهى فى العالم العربي)، كما يسجل بحق تلميذه خالد أبو الليل،
( 4)
أما فى جانب التنقيب عن النصوص القديمة، وتحليلها من منظور معاصر أو فى مجال الأدب الشعبى المقارن أو قراءة النصوص قراءة فولكلورية... لدينا كتابه المهم «الأدب الشعبى وثقافة المجتمع» (صدر عن مشروع مكتبة الأسرة فى 1999)، وهو كتاب يظهر فيه الاهتمام بالتراث المدون والشفاهى معا، وبتحليل النصوص وقراءتها من منظور معاصر. لكن تبقى كذلك كتبه الأصيلة التى اهتم فيها بالتراث الشفاهى والنصوص الحية التى أنتجتها الجماعة الشعبية وعبرت من خلالها عن أفراحها وأتراحها، آمالها وآلامها، والتوسل بهذا الإبداع الشعبى النابض بالحياة فى مواجهة كل أشكال القهر والفقر والظروف غير المواتية؛ من هذه الكتب:
«الأغنية الشعبية ـ مدخل إلى دراستها»، و«كل يبكى على حاله ـ دراسة فى العديد»، «الإنسان والخرافة ـ الخرافة فى حياتنا»، و«من مأثوراتنا الشعبية»، وهذا الكتاب تحديدا وعلى صغر حجمه يضم عرضا جميلا وتحليلا ممتعا لأهم أنواع القول والإبداع الشعبى مع نماذج رائعة منها (المثل، الحكاية، الأغنية، الموال، أغانى المناسبات والاحتفالات الشعبية، العديد «البكائيات«.. إلخ)، فضلا على مقالاته المهمة ودراساته المنشورة فى الدوريات والمجلات المعنية بالأدب الشعبى والتراث الشعبى.
( 5 )
للحقيقة، فإن إسهام أحمد مرسى العلمى والثقافى كان متشعبًا ومتنوعًا وأصيلًا، أرسى دعائم مدرسة أكاديمية مصرية فى الدراسات الشعبية والجمع الميدانى للمأثورات الشفاهية؛ وأرشفة هذه النصوص الفولكلورية، وتوثيقها توثيقا علميا داخل مصر وخارجها، حققت إنجازات مشهود لها بالقيمة والرسوخ.
مارس التدريس لطلاب الأدب الشعبى والدراسات العليا، وأشرف على عشرات الرسائل العلمية (ماجستير ودكتوراه)، ألف وترجم كتبا ودراسات مهمة، وتولى مهام إدارية ومناصب رفيعة فى مصر وخارجها، وأسس المعهد العالى للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون، وتولى عمادته.. وهذا كله مما يسجل بحروف من نور ويذكره التاريخ.. فالسيرة دائما أطول من عمر صاحبها..
رحم الله الدكتور أحمد مرسى، وجزاه خير الجزاء عما علم ونفع وأفاد.