على خطى أحمد بن فضلان (1 ــ 4)

عاطف معتمد
عاطف معتمد

آخر تحديث: الثلاثاء 30 يوليه 2024 - 7:27 م بتوقيت القاهرة

فى عام 2016 أخذت الصورة المرفقة لجدارية فى المتحف الوطنى بمدينة بولجار على نهر الفولجا فى البلاد العريقة التى تسمى «تترستان» والتى خاضت حروبا شرسة مع روسيا قبل 5 قرون كى لا تصبح جزءا منها بسبب تمايز عقيدة وقومية شعوبها عن عقيدة وقومية «الروس» الزاحفين عليهم من الغرب.


الجدارية رسمت فى وقت حديث للغاية، ربما قبل زيارتى بعشر سنوات على الأكثر، ولكنها توثق لحدث شهير وقع قبل نحو ألف سنة.


إذا نظرت إلى الجدارية (التى يجلس أمامها التترى الأصيل «مراد» الذى كان دليلى فى تلك البلاد) ستجد رجلا ممشوقا يرتدى رداء أبيض اللون يقرأ رسالة طويلة، وهذا هو السفير والرحالة «أحمد بن فضلان» الذى أرسله الخليفة العباسى المقتدر بالله فى عام 921 ميلادية استجابة لرسالة من ملك بلاد البولجار الذى طلب تعريف قومه بالإسلام رغبة فى الدخول فيه.


الطريف والمدهش أن الخليفة العباسى آنذاك لم يكن يستطيع أن يتحكم فى الأراضى الخاضعة رسميا لسلطة الخلافة فى بغداد، حتى إنه لم يمنح تمويلا لسفارة ابن فضلان وطلب منه أن يأخذ ميزانية الرحلة فى طريق سفره إلى تلك البلاد من أموال متأخرة من الإمارات الخاضعة لسلطة الخلافة.


كانت الخلافة الإسلامية فى فترة ضعف آنذاك ورفضت الأقاليم أن تمنح ابن فضلان أموالها المتأخرة لبغداد وكادت السفارة أن تفشل نهائيا حيث تعثر عدد من أعضاء الرحلة أو تخلفوا لعدم وجود تمويل يكفى للسفر إلى تلك البلاد البعيدة فى الشمال.


وصل ابن فضلان إلى بلاد البولجار وقِبل ملكها وشعبها الإسلام وصاروا من دون أية معارك شعوبا تدين بالإسلام بل كانوا يعرفون عن الإسلام ما أدهش ابن فضلان.


لكن هذه الشعوب تميزت بميزة مهمة للغاية، وهى أنها جمعت مع هوية الدين هوية قومية مخالفة لبقية الشعوب المجاورة لها وهو ما أعطاها خصوصية كبيرة فى خريطة العالم الإسلامى، تلك الخصوصية التى تقوم على تزاوج الدين مع القومية، وهى خصوصية بالغة الشدة والأثر.


11 قرنا على الرحلة


أكثر من 1100 سنة تفصلنا عن سنة فى 921 م حينما وصل ابن فضلان إلى بلاد البولجار من تاريخ اليوم ستحصل على رقم 1100 سنة.


فى هذه البقعة التى أخذت منها الصورة المرفقة تم تشييد أول مسجد فى هذه البلاد بعد قبول حاكم الإقليم للدين الإسلامى وفق الرسالة التى جاء بها ابن فضلان مبعوثا من الخليفة العباسى المقتدر بالله.


بالطبع المساجد الفخيمة التى تبدو فى الصورة ليست هى المساجد الأولى التى شهد ابن فضلان وضع لبناتها قبل 1100 سنة بل هذه مساجد تأسست حديثا جدا لأسباب جيوسياسية، أى أسباب جغرافية وسياسية، وسأعرضها لك فى السطور التالية كمدخل افتتاحى للموضوع الشيق.


حينما تفكك الاتحاد السوفيتى فى عام 1991 سعت جمهوريات ومناطق إدارية عديدة إلى الانفصال عن روسيا أسوة ببقية الجمهوريات التى كانت قد انضمت للاتحاد السوفيتى.
واحدة من تلك الجمهوريات (الشيشان) اختارت مسارا مسلحا انفصاليا لوقوعها على التخوم الجنوبية ولأسباب عديدة شرحناها حينما غررت بها بعض دول المركز الإسلامى والولايات المتحدة وبعض عناصر فى الداخل الروسى.


استمرت تلك الحرب عشر سنوات دامية وانتهت بإخضاع الشيشان فى حرب أكلت الأخضر واليابس.


فى تلك الأثناء كانت هناك جمهورية أخرى هى «تترستان» تطالب بالاستقلال نظرا لما لديها من مقومات قيام دولة منفصلة عن روسيا، خاصة أن هذه الجمهورية من أغنى الجمهوريات فى البلاد.


فى عهد بوريس يلتسين ثم فى عهد فلاديمير بوتين تم اللجوء إلى الخيار التفاوضى وهو أن تمنح تترستان امتيازات كبيرة من الميزانية الفدرالية شريطة أن تبقى ضمن سلطة «الاتحاد الروسى» وهو الاسم الصحيح للترجمة الخاطئة التى نقولها عن روسيا حين نسميها «روسيا الاتحادية» فالاسم الصحيح هو «الاتحاد الفدرالى الروسى».


يقوم النظام الفدرالى على منح صلاحيات عديدة للجمهوريات، فتترستان مثلا لديها رئيس للجمهورية ومجلس وزارى (التقيت مثلا مع سفير بلادنا فى موسكو فى عام 2015 مع وزير الثقافة فى هذه الجمهورية ضمن فعاليات نشاط ثقافى مشترك مع مصر، وهو وزير ثقافة للجمهورية غير وزير ثقافة عموم الاتحاد الروسى).


أى أن الجمهورية تتمتع (بشكل عام) بمزايا الحكم الفدرالى الذى يستثنى منها التمثيل الدبلوماسى الخارجى أو شئون الدفاع والجيش.


ملف تترستان شائك شائق، ويحتاج إلى مجلدات كى نوفيه حقه، لكن بخصوص الصورة المرفقة فإن ما نراه هو جزء من إعادة إحياء مدينة بولجار الإسلامية التاريخية التى كانت واحدة من أهم المراكز الحضارية فى تلك البلاد قبل 1100 سنة.


وبما أنى زرت هذه المدينة فى الصيف فقد وجدتها قبلة للسياحة الوطنية من أبناء الجمهورية الذين يشعرون بفخر دينى وقومى تجاه تاريخهم فى هذه البلاد.


البولجار فى تترستان


تجمع تترستان كما ألمحنا بين هويتين:


- هوية إسلامية اختارتها رسميا فى عام 921 مع رحلة ابن فضلان (وإن كان الإسلام قد وصل هنا قبل ابن فضلان بعدة قرون بشكل روحى وعبر التجار وليس عبر بعثات دبلوماسية)
- هوية قومية باعتبار أن لسكان الإقليم تكوينا عرقيا وقوميا مختلفا عن العرق الروسى.


لو تحدثنا بلغة المفاوضات البراجماتية فإن التدمير الذى شهدته الشيشان فى العشرية السوداء حتى عام 2000 قد انعكس على تترستان إيجابا كما انعكس على بقية الجمهوريات ذات المقومات الانفصالية.


صحيح أنه اليوم عادت جروزنى العاصمة الشيشانية إلى بنية عمرانية حديثة وعمائر عصرية إلا أن ذلك حدث بعد أن دمرت الحرب كثيرا من المقومات البشرية فى تلك الجمهورية.


تترستان لم تشهد حربا، واستفادت نسبيا من الضغط الذى سببته المشكلات الانفصالية فى الشيشان فشهدت نهضة عمرانية وتنموية، أخذا فى الاعتبار أن أبناء هذه الجمهورية يرون هذه النهضة «مستحقة» وهى جزء من إمكانات بلادهم التى يجب أن تعود عليهم.


بولجار إذن التى تظهر مساجدها فى الصورة المرفقة مدينة إسلامية أعيد ترميمها خلال العقدين الماضيين فقط.


والمساجد التى تراها فى الصورة هنا تحاكى بشكل أو بآخر مجمع تاج محل فى الهند وهو اختيار بالغ الدلالة والتوفيق.


لا أستطيع أن أقول لك إن بولجار مدينة عامرة بأرواح زمن ابن فضلان، فهى مدينة تأسست بإنفاق باذخ لاستعراض الفخر القومى والدينى والتأكيد على أن موسكو تدعم الهوية القومية والدينية لشعوب تلك الجمهورية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved