سيادة الزعيم الدوبلير
حسام السكرى
آخر تحديث:
الأحد 30 أغسطس 2015 - 6:15 ص
بتوقيت القاهرة
فى عام 2003 وبعد شهور من بداية الحرب على العراق، التقيت مع رئيس الوزراء البريطانى السابق تونى بلير، لإجراء حوار لـ«بى بى سى». كان الموضوع الساخن وقتها هو أسلحة الدمار الشامل التى تم تبرير الحرب بها، والتى لم تعثر قوات التحالف عليها قط. لم يبق فى ذاكرتى الكثير مما دار فى اللقاء، لكننى مازلت أذكر قبضته المضمومة، ونظرته الحادة وهو يؤكد أنهم سيعثرون حتما على الأسلحة.
لا شك لدى فى أن الكل كان يعلم أن ترسانة العراق من هذه الأسلحة قد تم تدميرها تماما، وأن عثور قوات التحالف عليها أمر مستحيل. ولكن ما استغرقنى تماما كان نبرة بلير الواثقة وإصراره الحاسم على وجود الأسلحة دونما أى دليل. كنت أحاوره وفى ذهنى أسئلة أخرى لم أتمكن من طرحها عليه وهى التى بقيت فى ذهنى حتى الآن. هل هذا الأداء الواثق تمثيل؟ هل توتر الصوت والنظرة الصارمة والإشارات الحاسمة اقتناع صادق بوجود الأسلحة؟ أم أننى أمام ممثل واثق تقمص دوره ببراعة؟
للمخرج اليابانى الشهير أكيرا كوروساوا فيلم رائع أنتج فى عام 1980 باسم «ظل المحارب» أو «كاجيموشا» باليابانية. (ربما تكون الترجمة الأدق للاسم «المحارب الظل» أو «الدوبلير»).
يحكى الفيلم قصة لص متشرد يلاحظ قادة إحدى العشائر اليابانية المتحاربة فى القرن السادس عشر أنه يشبه إلى حد كبير زعيمهم وقائدهم، فيقررون إعفاءه من عقوبة كادت أن توقع عليه، ليستخدموه كبديل للزعيم عن الحاجة. يلتحق اللص بالبلاط ويتم تدريبه على تقليد الزعيم الكبير. يتعلم إشاراته وإيماءاته وحتى طريقة مشيه وكلامه فيصبح من الصعب أن تفرق بين الاثنين بسهولة.
وفى خضم الحروب والمنازعات مع العشائر المجاورة، يتعرض الزعيم لسهم قاتل، فيوصى قبل موته بإخفاء خبر إصابته أو وفاته عن العشيرة، حتى لا تضعف أمام الأعداء.
تتطور الأحداث وتجد العشيرة نفسها مقبلة على معركة كبرى فيسرع القادة إلى اللص الدوبلير ويطلبون منه أن يقود الحشود فى ساحة المعركة. لم يطلب منه أحد أن يوجه الجيوش أو يقرر كيفية التعامل مع هجمات العدو. المطلوب فقط أن يجلس كزعيم وأن «يُشعر» أتباعه وجنوده أنه القائد الملهم.
أخذ القادة اللص الدوبلير وأجلسوه فى موقع القائد على ربوة مطلة على المعركة، بحيث يراه الجنود ويستمدون منه القوة. تبدو المسألة سهلة ولكنها فى واقع الأمر ليست كذلك. وعندما جلس صاحبنا فى مقعد القائد الذى عرف عنه أنه «الجبل الذى لا يهتز»، فشل فى أن «يفيض» على شعبه من إحساسه بالثقة والثبات، ولم يتمكن جنوده من أن يستلهموا الشجاعة والإقدام من وجوده معهم.
لا شك أن السياسى ينبغى ان يكون ممثلا جيدا ولا أعتقد أن هذا بالضرورة عيب. القدرة على التواصل مع الجماهير وإلهامهم وتقمص تطلعاتهم وأحلامهم والتعبير عنها بصدق هى بلا شك من مبادئ الزعامة والقيادة لكن مع مراعاة بعض الشروط البسيطة.
الأول: ألا يكون الأمر كذبا فى كذب (كما كان الأمر مع رئيس الوزراء البريطانى السابق)، فكل كذبة تنكشف مهما طال عمرها.
والثانى: أن يكون السياسى بالفعل فى حجم الدور المنوط به، وأن يكون صادقا، دون افتعال عندما يتواصل مع جمهوره. فالتمثيل مثل السياسة، هو أبعد ما يكون عن «الشخط» أو التشنج أو السهوكة.