نظرت باستغراب إلى قطعة الحلوى التى وضعتها أمامى صاحبة البيت. لم أر هذا النوع من الحلوى الذى تشتهر به مدينة حمص السورية منذ سنوات، وقد يأتينا من يزور حمص بذلك النوع الخاص جدا من الحلوى الملونة. رفعت عينى من الطبق ونظرت فى وجه صاحبة البيت فابتسمت «هاد من عنا من حمص»، وقالت لى: «أصلا كل سنة وأنت سالمة، العيد صار عالأبواب».
أنا فى لبنان، فى بيت صغير جدا ومتواضع، أجلس على الأرض وأستمع إلى قصة السيدة ذات الشخصية القوية والوجه الجميل. يدخل زوجها فأقف لأسلم عليه بينما هو يسألنى إن كنت أعرف عن خميس الحلاوة. أجاوبه بالنفى؛ فيجلس قرب زوجته ليشرح لى أن فى حمص، حيث كانوا يعيشون، يحتفل أهل المدينة مرة فى السنة بما يسمونه خميس الحلاوة، فيه يشترى كبار العائلة حلوى كتلك التى وضعتها زوجته أمامى ليعطوها للصغار.
***
تشرح لى صاحبة البيت أن أباها كبير السن كان يشترى الحلوى لبناته الثلاث ويزورهن جميعا يوم خميس الحلاوة، بل كان يزور أيضا زوجة ابنه يتيمة الأب حتى يشعرها أنها فى مقام بناته. سألت فيما بعد صديقة حمصية عن تلك العادة فأكدت لى أهمية خميس الحلاوة وقالت إنه وبحسب ما سمعته فى عائلتها، أن أصل الحكاية كانت فى زيارة العائلات للمقابر فى يوم خميس محدد فى السنة، يتم فيه أيضا توزيع الحلوى على الفقراء قرب المقابر. ويحكى أنه فى ذلك اليوم، تلبس النساء وتتزين استعدادا لاستقبال الضيوف من العائلة، والذين يأتون حاملين معهم فعلا الحلوى، أو الحلاوة، بعد زيارتهم للمقابر.
***
العيد فعلا على الأبواب، وسوف تبدأ وقفته هذا العام يوم الخميس أيضا. سوف تتذكر هذه الأسرة الحمصية من فقدوا ومن بقى هناك، سوف يتذكرون أعيادا مضت وأبا حمل الحلوى الملونة وزار بيوت البنات. الأب سند، تقول لى السيدة الحمصية فأرى أبى وهو يعطينى الطيبات بعد أن يكون قد ذهب للتسوق ثم عاد. أنظر فى وجه الزوج الحمصى، وأتخيله عائدا من عمله حاملا معه أكياسا من الورق البنى فى داخلها فاكهة الصيف. تستقبله زوجته الجميلة وتأخد منه الأكياس وهى تدعو الله أن يرزقه.
***
قد يكون موعد اقتراب العيد ووجودى بين أسرة تحكى لى عن طقوس مدينة تركتها هى منذ سنوات، وقد يكون منظر الحلاوة الحمصية التى كنت قد نسيتها، قد تكون نظرة الرجل وهو يصف ابنه المتميز فى المدرسة، لا أعرف إن كان مزيجا من كل ذلك كله قد مسنى، فانتقلت إلى حارة فى دمشق لم أسكن فيها أصلا، إنما عاشت فيها جدتى وكثيرا ما أمضيت معها فى بيتها هناك وقتا فى طفولتى. اختلطت علىّ التفاصيل، بينما الرجل وزوجته يحكيان عن حياتهما وعن تقاليد مدينتهما. أندم أننى ربما لم أزر مدينتهما بشكل كاف يسمح لى أن أتجاوب معهما. ثم أشتاق لجلسة شبيهة بهذه، فى غرفة جلوس بيت جدتى منذ سنوات بعيدة، حين كانت تفتح الشبابيك الطويلة فى الصباح، فتأتينا منها أصوات الحارة بين البائعين والسيارات وراديو الجيران يبث مسلسلا عن العدالة الجنائية، أكاد أجزم أن جميع أهل دمشق قد استمعوا إليه فى أسبوع أو فى آخر من ذاك الزمان.
***
مهما حاولت أن أتجاهل العيد، فهو ينسل تحت جلدى فى الأيام القليلة التى تسبقه. مهما ذكرت نفسى أننى أصلا أعيش بعيدا عن عائلتى الكبيرة منذ سنوات، وأننى لم أحتفل معهم سوى مرات معدودة مذ قررت أن أعيش خارج سوريا، إلا أن الوجوه وصينية المعمول ورائحة القهوة تتبدى لى جميعها فأحاول أن أشيح بقلبى عنها لأنها يفترض أنها لم تعد تعنينى. ثم أسمع ضحكة وأتوقع ثرثرة، وأتذكر غرفة كبيرة أشعل أحدهم فيها أنوارا عالية ووضع إبريق القهوة وصحن المعمول وغيره من الحلوى على طاولة فى وسطها. تجلس جدتى على الكنبة ولا أعرف فى أى مرحلة من عمرها كانت تلك اللقطة، أظن أنها فى مرحلة كانت جدتى ما زالت فى صحتها، أى إننى كنت ما زلت طفلة. فى الصورة أيضا والدتى وخالى الأصغر وزوجة خالى الأكبر، يبدو أن الباقين لم يصلوا بعد. فى الصورة أيضا الجيل الأصغر والجميع منهمك فى حديث أو فى منح وتسلم العيديات، هناك أم تنهر صغيرتها التى أكلت ثلاث قطع من الحلوى، وهناك أيضا رجل أكبر سنا من الآخرين يبدى توقعا أن يعامله الآخرون معاملة خاصة.
***
أنا أدعى منذ سنوات أننى لا أكترث للعيد، لكنى أعرف فى داخلى أنى أريد أن يتذكر أبنائى غرفة جلوس مكتظة بالأقارب فى منزل جدهم، أريدهم أن يتذكروا العيدية وأن يحبوا المعمول. ربما إحدى نتائج التنقل الكثير هو الارتباط برموز أصبحت مراجع للهوية، مثل حارة شطفها أهلها قبل العيد فاختلطت رائحة الغبار بالماء وعشعشت الرائحة فى أنفى حتى اليوم. أو ربما نكات يتم إطلاقها ضمن العائلة فى كل لقاء فأصبحت مرتبطة بأفراد بعينهم فى كل عيد أو ذكرى. ربما هى تفاصيل قد تبدو صغيرة لكنها تصرخ فى قلبى، قبيل العيد، إننى من هناك، تماما كتلك العائلة الحمصية التى أعطتنى مرجعا جديدا هو خميس الحلاوة.