حياة فوق غرفة المعيشة
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 30 أغسطس 2023 - 8:40 م
بتوقيت القاهرة
تماما كما لكل منا صديق كاتم للأسرار، لكل بيت غرفة شاهدة على قصص المنزل اسمها فى سوريا سقيفة وفى مصر سندرة وفى فلسطين سدة. فى هذا المكان حياة موازية، أتخيل أحيانا أسرة تعيش فى تلك المساحة، أو ربما شاهدت يوما فيلما عن عائلة تكتشف أن أشباح من سبقها من قاطنى منزلهم ما زالوا يعيشون فى السقيفة فجمعت القصتين معا. عادة ما تأخذ هذه المساحة المخفية حياة خاصة بها وتكتسب سمعة فتكون مثلا فوضوية أو منسقة وتصبح مادة للحديث بين أصحاب البيت وأصحاب بيوت أخرى.
• • •
تستقبل السقيفة كل ما لم يعد ينفع فى الحياة اليومية لكننا نظن أننا قد نعود إليه يوما فلا نرميه. تشهد السقيفة على علاقتنا المعقدة بالأشياء، كأن نخبئ فيها مثلا كتب اللغة العربية للصف الثانى الابتدائى والتى لم تعد أصلا تدرس، إذ تغيرت المناهج وتغير وزير التربية وبتنا نسمع عن «التعليم الرقمى» بينما هناك فى الكتاب على صفحة نشيد «أمى أمى» قلب صغير، رسمه أحدنا بقلم الرصاص وغطاه بكفه أثناء الدرس لتجنب توبيخ المدرسة حينها. مئات الأوانى المنزلية والعلب الزجاجية التى قد تنفع فى موسم المربى، آلات كهربائية منزلية لم تعد تعمل وتحتاج تغيير قطع أساسية لم تعد موجودة عند الوكيل لكنها تجلس بهدوء تنتظر حتفها الذى لا يريد أصحاب البيت أن يستعجلوه.
• • •
يتطلب الوصول إلى السقيفة عملية معقدة يتم فيها استدعاء السلم وعند آخر درجة يجب على من يقف عليها أن يلوى جسده ويشد إحدى اليدين (بينما تمسك اليد الأخرى بباب السقيفة) ليصل إلى ما يريد. قد تسمح بعض الحركات البهلوانية بالدخول إلى المساحة الضيقة على شرط أن نخفض رأسنا فنصبح كالعملاق فى قصص الأطفال حين يكتشف بيتا على غير حجمه فيحشر جسده وينزلق فيه. هناك، داخل المساحة الصغيرة، تظهر سنوات الدراسة فى زاوية مع دفاتر الواجبات وملاحظات الأساتذة، أمامها لعبة بعينيها الزرقاوين وقد فقدت إحدى يديها لكن ذلك لم ينتقص من جمالها فتم حفظها هناك. فى صندوق محكم الغلق تنتظر صحون الجدة من يعيدها إلى الحياة، يعيد الجدة والصحون، فقد استعملتها فى مناسبات عائلية كثيرة لكنها لم تعد تعجب ابنتها فاستبدلتها بأطقم من الصحون الملونة على مدى سنوات، بينما قد لم تتخيل الجدة يوما أن يتم شراء صحون إضافية للمنزل، فعلى وقتها كان طقم الأوانى يبدأ حياته مع تجهيز بيت الزوجية ولا يتم التخلى عنه قط. كانت الصحون، كالزواج نفسه، أبدية.
• • •
اليوم يتحدث الكثيرون عن عملية التخلص من الكراكيب وأثرها الإيجابى على الراحة النفسية، إذ يبدو أن مع كل فراق تتحرر النفس من قيد ربطها أحيانا دون سبب منطقى بشىء. وبسبب القيد هذا لم يتم أبدا التخلص من راديو لم يعد يعمل أو طاولة لم يعد لها مكان أو مجموعة أقلام كانت قيمة فى يوم ما إنما لم يعد يهتم بها سوى القلائل ممن يهوون الأشياء القديمة.
• • •
تحكى السقيفة حكاية أهل البيت كما لن يحكيها أحد. سرير الصغير فى سنته الأولى، هو اليوم طبيب يعيش بعيدا وإن رأى السرير فلن يعنى له الكثير، سلسلة مجلات كان الأب مهووسا بجمعها ها هى تحتل رفا كاملا على غلاف إحداها تحذير من مخاطر تلوث الجو. لو يعرف كاتب المقال أننا على وشك أن نفقد الجو بأكمله بسبب التلوث واستهتار الشركات والناس. عنوان آخر عن أهوال الحرب فى لبنان فى ثمانينيات القرن الماضى، اليوم ها هو لبنان يشهد مرحلة شديدة الصعوبة بعد نهضة ما بعد الحرب دامت أكثر من عقدين. السقيفة إذا شاهدة على دورة أو أكثر من حياة بلد فتذكر مجلة على الرف فى سقيفة بموقع بيروت الثقافى والفنى دورها المركزى فى إنتاج فكر وأدب وموسيقى... على الأقل بحسب مجلة عمرها ربما نصف قرن.
• • •
هناك، فوق غرفة المعيشة أو ربما فوق المطبخ، يوجد مكان يكون الدخول إليه كالدخول إلى قاعة سينما تعرض فيلما قديما على آلة فتهتز فيه الشاشة قبل أن تظهر مشاهد صامتة. لا صوت فى السقيفة إنما أحداث كثيرة تعود إلى الحياة حين نلمسها. مع كل قطعة مخبأة هنا يظهر وجه طفل أو جد، نسمع ضحكة أو همسة قلق. السقيفة شاهدة على ما حدث داخل كل بيت، ومحتواها كقصاصات من كتاب الأسرة بإمكاننا إعادة تشكيله لكنه قطعا لن يعود تماما كما كان، فمن يدخل إلى السقيفة له القدرة على ترميم القصة كما يريد.
• • •
مغارة معلقة يدخلها بعض الضوء فينير زوايا فى القلب كنا نظن أنها ضمرت. فرصة لنبش القديم وتحرير النفس من أشباح نزيحها بين حين وآخر لكنها تعيش فى المساحة الضيقة حتى بعد رحيل أصحاب البيت. أعد نفسى بأن أعيش فى بيوت لا سقيفة أو سندرة فيها، لا أريد التمسك بأشياء انتهى زمانها، أريد أن تبقى روحى خفيفة ولا تشتبك مع بقايا قصص انتهت. هناك أسرار ربما نحب أن يكتشفها من حولنا، أترى هذا هو سبب وجود السقيفة بالأساس؟ حتى تحكى أسرار لم نحكها بأنفسنا.