كيف يخدم البنك المركزى التنمية؟!
محمد يوسف
آخر تحديث:
الثلاثاء 30 أكتوبر 2018 - 10:55 م
بتوقيت القاهرة
خلال العقود التالية لسيطرة «النيوليبرالية» على مقاليد الفكر الاقتصادى الغربى، انحصر الجدل الفكرى حول دور البنوك المركزية فى مدى مسئوليتها عن تحقيق الاستقرار النقدى ومكافحة التضخم. وبدأ يُروَج لمصطلحات من نوعية «استهداف التضخم»، كتعبير عن تفرغ البنك المركزى، وبطريقة ميكانيكية بحتة، لتحديد حجم المعروض النقدى الذى يناسب مستويات الإنتاج الحالية والمتوقعة.
وإذا كان من المفهوم أن الدول التى حققت معدلات عالية من الاستثمار والإنتاج والتصدير، واقتربت من مستوى التوظف الكفء وشبه الكامل لعناصر الإنتاج بها، أن تركز بنوكها المركزية على ضبط عرض النقود، وأن تستهدف معدلات مقبولة من التضخم دون غيره من الأهداف؛ فإن ما يدعونا دائما للتساؤل، هو كيف يمكن للدول النامية التى مازالت فى الأطوار الأولى للنمو الاقتصادى، وما برحت تعانى من مستويات مرتفعة لبطالة عناصر إنتاجها، أن تسعى بنوكها المركزية لتقليد بنوك الدول المتقدمة، وتركز على هدف مكافحة التضخم، وتهمل باقى الأهداف الاقتصادية، وعلى رأسها هدف زيادة التشغيل والتوظف؟!
****
طالعت مقالا فى الشروق للكاتب وائل جمال بعنوان «لكى يخدم البنك المركزى الشعب»، يتناول فيه أبرز القضايا التى تضمنها كتاب صدر أخيرا لبعض الأكاديميين الغربيين، ومعنون بـ«هل تخدم البنوك المركزية الشعب؟». وبعد أن قدم الكتاب تقييما نقديا لقضية استقلالية البنك المركزى، ولقضية حيادية السياسية النقدية، يذكر المقال أن مؤلفى الكتاب يعتقدون بأن البنك المركزى سيكون فى خدمة الشعب، حينما تتعزز مؤشرات الرقابة والشفافية فى آليات عمله، وإذا روعيت الأبعاد والآثار الاجتماعية لسياسته النقدية، مثل: مراعاته لقضايا التوزيع واللامساواة، واهتمامه بتنسيق سياساته مع باقى السياسات الحكومية، وتنويعه لخبرات وخلفيات مسئوليه التنفيذيين.
والحق، وفى إطار ما عرضه المقال المشار إليه، فإن الرؤية الإصلاحية لأدوار البنوك المركزية، والتى يحملها هذا الكتاب فى طياته، تمثل، فى رأيى، إجابة دقيقة عن السؤال الذى يطرحه عنوانه، وتعتبر حلولا ملائمة لجانب مهم من المشكلات التى تواجه الاقتصادات المتقدمة. ذلك أن الإسراف فى عزل الظواهر النقدية عن الظواهر الحقيقية، والتضخم الفلكى فى القطاعات والأنشطة المالية، والركود فى القطاعات الحقيقية، هى التى أفضت للأزمة المالية العالمية فى أواخر العام 2007، وهى التى يمكن أن تفضى وتعمق من الأزمات المستقبلية فى هذه الاقتصادات. ولكن، هل يمكن الاعتداد بنفس الإجابة التى قدمها هذا الكتاب، عندما نطرح نفس سؤاله فى اقتصاد نامٍ؟ وبمنطق أكثر وضوحا، هل يتعين على البنك المركزى، فى بلد نام كمصر، أن يرسم سياساته فى إطار اجتماعى، وألا يقصر جهوده على «استهداف التضخم»؟
****
إن أول ما يمكن ذكره، ونحن نتحدث عن دور البنك المركزى فى البلاد النامية، هو ضرورة تحرير «المصطلحات المستوردة» من إساءة الفهم. فلا يمكن بحال أن نقبل التفسير المحلى الشائع لمصطلح استقلالية البنك المركزى، بأنه يكون مستقلا فى رسم سياساته النقدية، بمنأى كامل عن السياق الاقتصادى الذى يدور فى فلكه، وحتى لو تسبب ذلك الاستقلال فى الإضرار بباقى السياسات الاقتصادية (لاحظ وجود صراع دائم بين صانعى السياسة النقدية والمالية فى أغلب البلدان النامية). كما لا يجوز أن نفهم أن مصطلح «استهداف التضخم» يقصد به أن يصبح الشغل الشاغل للبنك المركزى هو تحقيق الاستقرار النقدى، حتى ولو قصر فى باقى أدواره المنوطة به.
وعندما نضبط هذه المصطلحات، وإذا سلمنا بأهمية الشفافية فى سياساته، وضرورة مراعاة الأثر الاجتماعى والتوزيعى لها، يمكن أن نتفق على «إطار تنموى» لدور البنك المركزى فى الدول النامية، لنرتب به الأولويات التى يجب على هذا البنك أن يتوخاها بدقة، وهو يتحرك صوب التنمية. والنقاط التالية ترتب هذه الأولويات من الأهم إلى المهم:
ــ تعتبر الأولوية رقم واحد للبنك المركزى هى استهدافه التوازن فى الميزان التجارى (الميزان الذى يوضح أحوال صادرات الدولة وواردتها من السلع والخدمات)، ومعالجة العجز المتفاقم فيه، للتصدى لمشكلات سعر الصرف للعملة الوطنية. فمن المعلوم أن أُم المشكلات التى تواجه الاقتصاد النامى، والتى تنعكس فى مرآتها معظم مشكلاته الداخلية، تظهر فى الاختلال القائم بين صادراته ووارداته. وبتقاعس الصادرات عن مواكبة الواردات، وبسبب محدودية رصيد الاحتياطيات الدولية، تُضطر البنوك المركزية لتخفيض قيمة عملاتها، مع ما يأتى فى ركابها من رياح التضخم العاتية. ولذلك، فعلى البنك المركزى أن يستخدم كل أدواته ليدعم الطاقة التصديرية للاقتصاد، وليقيد النمو فى الواردات، وتحديدا الواردات الاستهلاكية غير الضرورية للتنمية.
ــ والأولوية الثانية للبنك المركزى تتمثل فى تقييد «حساب رأس المال» لصالح التنمية، بغية تحقيق التوازن الاقتصادى الخارجى، ومعالجة الاختلالات الطارئة فى الميزان التجارى. والتقييد الذى أقصده هنا، ويتعين على البنك المركزى القيام به، لا يعنى أن نوصد الباب كاملا أمام حركة رءوس الأموال؛ ولكنى أقصد به التقييد الواعى بأهمية «الفتح المنضبط» لهذا الباب أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة فى القطاعات التنموية؛ والواعى بخطورة «الأموال الساخنة» التى تهيم على وجهها فى الأسواق الدولية، بحثا عن الربح السريع، ودون أدنى اعتبار للمصلحة الاقتصادية للدولة المتلقية لهذه الأموال.
ــ وفى ضوء حاجة الدول النامية الماسة لتوسيع طاقاتها وقدراتها الإنتاجية لعلاج مشكلة التضخم، فإن الأولوية الثالثة للبنك المركزى يجب أن تستهدف مستويات مرتفعة من التشغيل. فلا يجوز أن نغفل أن زيادة المعروض من السلع والخدمات فى الأسواق، هو القادر على القضاء المبرم على مشكلة التضخم الناجمة من تفوق الطلب على العرض. وبالتالى، وعلى خلاف الوضع فى الدول المتقدمة، فإن استهداف التشغيل فى الدول النامية يمثل الاستهداف الحقيقى للتضخم فيها. وفى هذا السبيل، فقيام البنك المركزى بمنح مزيد من الحوافز التمويلية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، والنزول بأسعار الفائدة عليها للحدود الدنيا، يجب أن يسير، جنبا إلى جنب، مع معالجته لمشكلة التسرب فى سوق الائتمان، والتى تتسبب فى أن يصل هذا الائتمان لغير مستحقيه.
ــ وبسبب الإفراط فى الاستدانة الداخلية، وبسبب لجوء الحكومة لتغطية عجز موازنتها بطرح أذون وسندات الخزانة للاكتتاب فيها من وحدات الجهاز المصرفى، فإن مزاحمة هذه الأذون والسندات للائتمان المتاح للقطاعات الإنتاجية، تصبح نتيجة لا مناص عنها. وعليه، تصبح الأولوية الرابعة للبنك المركزى هى التصدى لمشكلة المزاحمة تلك. ونحن نعلم أن هذه المشكلة ليست من صنع البنك المركزى، كونه ينوب فقط عن الحكومة فى إدارة عملية الاستدانة. ومع ذلك، فلا يوجد مانع اقتصادى من قيام البنك المركزى بتقييد وحدات الجهاز المصرفى التى تُفرط فى شراء المديونية الحكومية عالية العوائد وخالية المخاطر. كأن يلجأ مثلا بوضع سقوف عليا لمحفظة الأذون فى هيكل استثمارات البنوك. أو أن يربط بين نسبة الاستثمار فى هذه الأذون، ونسبة الإقراض الموجه لقطاع الصناعة وقطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
ــ أما الأولوية الخامسة التى يجب أن يستهدفها البنك المركزى، تتمثل فى جهوده لضبط هيكل الديون الخارجية الجديدة، وإعادة هيكلة القائم منها، بهدف تحقيق التوازن الدائم بين أوجه استخدامها وبين آجال استحقاقها. فبسبب ارتفاع كلفة الديون الخارجية، فإن المنطق الاقتصادى السليم يعارض بشدة أن تتوجه الديون الخارجية قصيرة الأجل لتمويل أنشطة اقتصادية متوسطة وطويلة الاجل. والعكس صحيح بطبيعة الحال. كما أن ذات المنطق يعارض أن تستخدم حصيلة الديون الخارجية فى أنشطة اقتصادية لا تُزيد من موارد النقد الأجنبى، وبما يضعف من قدرة الاقتصاد على خدمة ديونه الخارجية عندما تحين آجال استحقاقها. ولكل ذلك، فإن البنك المركزى يعد المسئول الأول عن الانتظام فى خدمة الديون الخارجية للدولة من مصادر حقيقية ومستدامة، وبما يجنبه من الوقوع فى فخ الديون الخارجية. فمن المؤكد أن أى اقتصاد يمكن أن يقع فى هذا الفخ، إذا أهمل بنكه المركزى ضبط هيكل المديونية الخارجية. إذ حينها سيضطر لمعالجة الخلل فى هيكل هذه الديون، عبر الحصول على ديون جديدة حتى يتمكن من سداد المستحق على الديون القديمة.
وعلى أية حال، فالملاحظة التى أود أن أضيفها بعد عرض هذه الأولويات الخمسة للبنوك المركزية فى الدول النامية، هى أن ادعاء هذه البنوك بأنها تركز جهودها فى استهداف معدل منخفض من التضخم، هو ادعاء تنفيه حقائق الواقع. فهى عندما تستهدف التضخم، تحاول فقط القضاء على بعض من مسببات «التضخم المحلى»، ولكنها، فى ذات الوقت، تتسبب فى زيادة «التضخم المستورد»، كنتيجة بديهية لتخفيضها قيمة العملة الوطنية، وبما يزيد مباشرة من أسعار الواردات. وتكون المحصلة النهائية لسياسة استهداف تخفيض التضخم، هى المزيد من التضخم.
****
لعل من الواضح الآن، بعد هذا التحليل، أنه ليس هناك ثمة اختلاف كبير بين السؤال الذى طرحه الكتاب المشار إليه فى المقال آنف الذكر، وبين السؤال الذى أطرحه فى هذا المقال، حول الكيفية التى يخدم بها البنك المركزى التنمية. لكن الاختلاف فقط فى شكل وحدود الإجابة على كليهما. وهذا دائما هو حال الأسئلة فى علم الاقتصاد. إذ بينما تتشابه الأسئلة الاقتصادية، فإن الإجابة عليها دائما ما تختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر. وفى سؤالنا، فإن البنك المركزى يصبح خادما أمينا للتنمية فى الظروف الراهنة لبلادنا النامية، إذا رتب أولوياته على هدى من المشكلات الاقتصادية الحقيقية التى تواجه هذه البلدان، لا على هدى مما ترتبه له النيوليبرالية فى طبعتها الاقتصادية!